فجر يوم جديد: {موج}
{لقدرته على عمل توازن محكم ودقيق لرؤية ذاتية}... هكذا وصفت لجنة تحكيم مسابقة الأفلام التسجيلية في الدورة السابعة عشر لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (3 – 8 يونيو 2014) فيلم {موج}، وهي تمنحه جائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل، التي تبلغ قيمتها المالية ثلاثة ألاف دولار أميركي. لم تكن وجهة نظر لجنة التحكيم بعيدة عن الصواب أو مُخالفة للتوقعات؛ فالفيلم الذي أخرجه الشاب الموهوب أحمد نور بعيد الصلة عن الأفلام التي تناولت ثورة 25 يناير 2011 في مصر، ويمكن القول من دون مبالغة إنه قلب الموازين تماماً، وانتهج أسلوباً فريداً وغير تقليدي، عندما رأى الثورة من منظور غاية في الخصوصية، على صعيدي اللغة السينمائية والرؤية الفكرية.لم يختر مخرج {موج} (71 دقيقة /2013) مدينة السويس كنقطة انطلاق لفيلمه لأنها مسقط رأسه أو لكونها صاحبة تاريخ نضالي طويل و{مدينة مقاومة} بالفطرة، بل لأنها أول مدينة مصرية حملت شعلة ثورة 25 يناير، وشهدت اندلاع الشرارة الأولى، ومن ثم قدمت أول شهيد. وبحس إنساني جميل يربط المخرج بين {حلا}، أول حفيدة لعائلة المخرج، وبين بيان التنحي الذي ألقاه عمر سليمان، وبين انعكاس ما جرى على السويس التي تنفس أهلها نسائم الحرية.
في فيلم {موج} لم يفرط المخرج أحمد نور في وسيلة أو شكل فني من دون أن يوظفه، وكانت النتيجة مبهرة للغاية؛ فالمزج بين الحي والتحريك والغرافيك والألوان والأبيض والأسود، والبراعة في استخدام المؤثرات الصوتية، والوعي في اختيار الموسيقى، أحالت الشاشة إلى لوحة تشكيلية جميلة خطفت الأنظار فيما حالف التوفيق المخرج في اختيار عنوان {الموجة} للمقاطع التي اشتمل عليها فيلمه، وعبرت عن رؤيته؛ فالعلاقة بين {الموجة} ومدينة السويس التي تطل على الخليج وطيدة فضلاً عن الصلة الوثيقة المعروفة بين {الموجة} والثورة، وحتى عنوان {الدوامة} الذي اختاره المخرج لأحد المقاطع لم يكن بعيداً عن أسلوبية الفيلم، الذي يمكن القول إنه تحول إلى وثيقة فنية نادرة تروي تاريخ مدينة السويس، ودورها المقاوم منذ الهكسوس والفرس وصولاً إلى العدوان الثلاثي في العام 1956 وحرب يونيو/ حزيران 1967 وانتصار أكتوبر/ تشرين 1973، ورغم هذا كافأتها الدولة بالتجاهل والنكران!بروح طفولية لا يمكن التغافل عنها، وسحابة من التفاؤل يصعب إنكارها، وشحنة تعاطف هائلة مع أهل بلدته، يستثمر أحمد نور الفرصة ليتذكر سنوات طفولته، ويُقارن بين الماضي والحاضر. لكن شكاوى الأهالي تنقلب في لحظة إلى فوضى وتُظهرهم وكأنهم حفنة من الهمج. ويثير غرام المخرج بالغربان التي تجوب السماء، وافتقاده لها في وقت من الأوقات، الدهشة والحيرة؛ فالغراب ارتبط لدى الناس بالخراب ويثير لديهم التشاؤم، ومن ثم فالعلاقة تبدو مبهمة وغامضة على عكس الأمواج الثائرة المتلاطمة التي تُنذر بالثورة، والدقات الرتيبة للساعة التي تُشير إلى الوضع الراهن، وعقاربها التي لم تتوقف في إيحاء بأن شيئاً لن يعود إلى الوراء، في حين عادت مظاهر الشك والخوف والريبة التي اختفت مع قيام الثورة. فالفيلم يذخر بالإشارات الذكية، والرؤية السياسية الرصينة التي يتم التعبير عنها بالصورة ومفرداتها، من دون أن يُصاب بالتخمة أو الترهل؛ بدليل أن الـ 71 دقيقة (مدة عرض الفيلم على الشاشة) مرت بسرعة خاطفة، ولم يتسبب زخم الأفكار والصور والإشارات في إرباك المتلقي.بالطبع تسرب الشك خشية نجاح القوى المضادة في إجهاض الثورة، وإهدار دم أبنائها الذين ضحوا بأرواحهم، وهو ما عبر عنه المخرج، عبر اللقاءات التي أجراها مع أهالي الشهداء. لكن عادت نبرة التفاؤل، ومعها الشجر بأوراقه المزهزهة، لتطل برأسها مع الكابتن {غزالي} قائد المقاومة الشعبية في مدينة السويس، أثناء حربي 1967 و1973، الذي جدد الأمل لدى المخرج، وأبناء جيله، وشدد عليهم ضرورة التشبث بالحلم، ومواصلة النضال لنيل الحرية، ودحر أي عدو يحاول أن يجر الوطن إلى الوراء. وجاء مشهد عُرس أحد أفراد {شلة الحرامية}، التي أطلق المخرج عليها هذا الاسم لاعتيادها سرقة الكتب ليُضفي بهجة، كذلك استعادة أغاني المقاومة على آلة السمسمية ليُكرس الرغبة في تحدي المستحيل وروح التفاؤل التي بثها الكابتن {غزالي} لدى أبناء جيل هزمه اليأس، وكاد يفقد إيمانه بالثورة. وعلى غرار الفيلم الروائي، الذي يعتمد القواعد الأرسطية من مقدمة ووسط ونهاية، يحدد المخرج أحمد نور مسار فيلمه «موج» ومصيره؛ حيث ينتهي الفيلم بماء البحر وهو يتسلل بين الصخور، وكأنه يسعى إلى إخضاعها واختراقها، ومثلما بدأ الفيلم بالحفيدة {حلا} التي ولدت يوم إعلان التنحي، نراها وقد فرغت لتوها من بناء بيت على الرمال، بينما ارتسمت على محياها ابتسامة جميلة، وبراءة الأطفال في عينيها، ولحظتها تتساءل: أترانا بصدد وهم يرمز إليه بيت الرمال أم تفاؤل تجسده الابتسامة؟