لا بد لقارئ رواية «وحدها شجرة الرمان» أن يمتلك قدراً من قوة التحمّل والجَلَد، ليتسنى له مواصلة القراءة. ليس لأنها رواية عن حضور الموت اليومي، أو عن طقوس إعداد الموتى فقط، وإنما لكونها تضجّ بقسوة غير عادية في رسم أحداث الموت ومشاهده. والأقسى من ذلك أن تكون تلك الأحداث والمشاهد مستلهمة من واقع حقيقي أشد عنفاً ومأساوية.

Ad

لم يكن الروائي العراقي سنان أنطون يحيك مشاهد روايته من خيال مريض أو يستلهمها من لقطات أفلام الرعب الهوليوودية، وإنما كانت الرواية معاينة مباشرة لواقع العراق اليوم، وهو يغرق في الفوضى والدم والتطرف والطائفية. قد تحمل لقطات التلفزة فكرة عامة ومختصرة عن ارتباكات الأوضاع وتنطعات الساسة وضعف الأمن، ولكن وحده هذا النسيج المتأني من الحكايا الإنسانية المريرة يظل قادراً على التوغل في ثنايا الضمير الجمعي، صانعاً نسخة موثقة من التاريخ الشعبي / المحكي، والذي غالباً ما يسقط من ذاكرة التاريخ السياسي مع تقادم الزمن.

لم يكن صوت جواد كاظم وهو يروي المآسي اليومية، أو يستقبل الجثث التي ترده في «المغيسل» بلا توقف، قادراً حتى إدانة أحد عما يحدث. فالشر قد عمّ وتوغل، والأشرار بلا حصر يتوزعون بين ساسة ودخلاء وعصابات ومختطفين وانتهازيين وخونة، والعراق يسبح في بحيرة من الدم والفوضى ويتحول إلى أنقاض من الركام والجثث البشرية المشوّهة. ولم تكن الرواية غير عدسة مقربة تعكس هذا الواقع الأشبه بالفنتازيا المرعبة.

اختار الروائي أن يكون «المغيسل» أو محل تجهيز الموتى هو بؤرة الحكاية والمحرّك الأساسي لأحداث روايته، وكيف لا يكون كذلك والموت هو الحضور الأكبر والأقسى في مفردات الحياة اليومية البغدادية. ثم جاءت شخصية جواد الذي ألِف الموت الفة مفرطة، كونه ورث مهنة مغسّل الموتى أباً عن جدّ، وهي مهنة التصقت به رغماً عنه، ورغم ممانعته ونفوره، إذ ليس هناك باب آخر أنسب للرزق في وطن يفوح بالقتل والدمار. ويا لها من مفارقة أن تكون مهنة تجهيز الموتى هي المهنة الأكثر رواجاً وازدهاراً!

وتأتي المفارقة الأخرى حين يكون جواد مغسّل الموتى – في الوقت ذاته - فناناً مرهفاً، منكفئاً على أحزانه الغائرة وآماله المستحيلة، ومستنكفاً من مهنة قاسية تقوده إليها الظروف كلما حاول النأي بنفسه عن هذا الجحيم اليومي. وما كان لهذا التمزق بين حالين إلا أن يأخذ صوراً أخرى أشدّ رعباً، تتمثّل في الكوابيس الليلية بأشباحها السريالية المستقاة من واقع أشدّ سريالية.

ويبدو أنه حتى «الحب» في مثل هذا المكان والزمان لا بد أن يولد معذّباً ويموت مريضاً أو مشوّهاً. لكأن الكوارث الإنسانية إبان الحروب والأزمات لا تتيح مثل هذه المشاعر «المرفّهة»، أو تحضّ عليها. فعلاقة جواد مع ريم بدأت مرتبكة ثم تطورت إلى قلق اللاتكافؤ، وانتهت إلى مرض خبيث وسفر أشبه بالهجران. أما علاقته بقريبته غيداء فقد غلبت عليها الشهوة الوقتية وانتهت بلا آمال أو وعود. وظل هو بمشاعره القلقة ووجدانياته الغامضة بلا مرفأ أو متكأ، حاله حال وطنٍ ممزق تتلاطمه الأمواج والخطوب.

أما شجرة الرمان وحضورها في الرواية، أو بالأحرى انغراسها في حوش المغيسل، فقد كانت الثيمة الفنية المشعة بالرموز والاسقاطات. لقد بدت رغم شربها من ماء الموتى - الذي يتسرب إليها بعد غسل الجثامين – باسقة مزهرة، ضاجة بأزهارها الحمراء وثمارها اليانعة. وهي في صمودها الأزلي تبدو وكأنها البرزخ الذي يندغم عنده الموت والحياة ويتلاقيا. وتلك أغصانها على مهل تُوسد مع جثمان الميت تبركاً وأملاً في ضجعة هادئة.

يحاول جواد في النهاية أن يهرب من جحيمه بالحلم في بدء حياة جديدة خارج العراق، فيسافر إلى الأردن ولكنه يفشل في اجتياز الحدود، ويعود أدراجه إلى بغداد. يعود ليستظل بشجرة الرمان الباقية ما بقي ماء الموتى جارياً، وبقيت الأحزان. ووحده الحوار معها يفتّق ظلمة اليأس: «أنا مثل شجرة الرمان، لكن كل أغصاني قُطعت وكُسرت ودُفنت مع جثث الموتى. أما قلبي فقد صار رمانة يابسة تنبض بالموت وتسقط منيّ كل لحظة في هاوية بلا قرار. لكن لا أحد يعرف. لا أحد. وحدها شجرة الرمان... تعرف».