الصين وتحديات الخوض في «المياه العميقة»
كان الرئيس الصيني تشي صريحاً في تناوله للتحديات التي تواجه الصين قائلاً: «إن نموذج التنمية «غير متوازن»، و«غير منسق»، و«غير مستدام». إضافة إلى ذلك تابع متحدثاً عن «التناقضات الاجتماعية» والنضال «الحاد» من أجل احتواء الفساد.
أطلقت وسائل الإعلام المملوكة للدولة في الصين على مخطط الإصلاح الجديد مسميات عدة أبرزها "وثيقة الإصلاح"، و"الإصلاح 2.0". وقد تنطوي مثل هذه التسميات على قدر قليل من المبالغة، غير أن الحزب الشيوعي في حقيقة الأمر قد طرح مقترحات إصلاحية لإجراء تغييرات اقتصادية واجتماعية هي الأوسع منذ سنوات طويلة. وهذا "القرار حول قضايا رئيسية تتعلق بإصلاحات عميقة شاملة"، حسب وصف الوثيقة التي كشف النقاب عنها في منتصف نوفمبر الجاري، قد يفضي على الأرجح إلى موجة واسعة النطاق من التجريب التي قد تشمل كل شيء تقريباً بدءاً من متاجرة الأراضي الريفية والنائية وصولاً إلى تحرير الرقابة على معدلات الفائدة. وسيتم تخفيف الحواجز المفروضة على الهجرة، وتلك المتعلقة بسياسة الطفل الواحد. كما أن نظام الاحتجاز والاعتقال الزائد بعيداً عن التشريعات المنظمة، والمعروف باسم "لاوجياو" (إعادة التربية عبر العمل)، سينتهي تماماً.كان الحزب متحمساً لتلك الوثيقة بحيث بادر، على غير المعتاد، بالإقدام على نشرها بعد ثلاثة أيام من الموافقة عليها في مؤتمر الحزب في بكين الذي انعقد في جلسات مغلقة حضرها الأعضاء الـ370 في اللجنة المركزية. وفي الأحوال العادية يمر أسبوع أو أكثر قبل أن تنشر المحتويات الكاملة لقرارات المؤتمر (وفي غضون ذلك يتعين على العامة الاكتفاء ببيانات أكثر إيجازاً وغموضاً). والغرض من وراء هذه الفترة هو ضمان توافر الفرصة لأعضاء الحزب الذين يتجاوز عددهم الـ80 مليوناً من أجل استيعاب مضمون الوثيقة أولاً. وربما ظن القادة في هذه الحالة أن التكهنات المتعلقة بمحتويات القرار كانت عالية جداً إلى درجة يصعب معها حجب محتوياته وعدم الإفصاح عن شيء منه فترة طويلة. (كان الاجتماع هو الثالث ضمن مؤتمرات الحزب في دورة الخمس سنوات، ومنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي كانت تلك المؤتمرات تقع ضمن جداول أعمال مناسبات كبيرة في غالب الأحيان). وقد بدأ بعض المحللين التساؤل حول ما إذا كانت ندرة مقترحات الإصلاح في البيان الأولي تعني أن الرئيس تشي جينبينغ قد تملكه الخوف، ولاسيما أن صور تشي تبقى على الأرفف لدى باعة السلع التذكارية في ميدان تيانامين مقارنة بماو تسي تونغ.
وعبر متابعتنا لهذا الكم الهائل من الأحاديث والتقارير حول الإصلاح التي غمرت وسائل الإعلام منذ نشر النص الكامل للقرار، فإن أجهزة الدعاية تبدو تواقة إلى تبديد مثل هذه التكهنات. في الماضي لم يتم نشر الكلمات التي يلقيها القادة أمام اجتماعات مؤتمر الحزب. أما في هذه المرة، على أية حال، فقد نشرت ملاحظات الرئيس تشي في المؤتمر حول أهمية القرار المذكور مع الوثيقة نفسها. وحسب "بكين يوث نيوز" الصادرة في العاصمة الصينية بكين، كانت خطابات مماثلة في مؤتمرات سابقة تعالج قضايا الإصلاح تصدر عن قادة أدنى رتبة. ومن الواضح أن الرئيس تشي يريد الإشارة إلى أنه يضطلع شخصياً بعملية الإصلاح. (وفي خطابه قال إنه ترأس الفريق المسؤول عن صياغة القرار، وهو هدف بدأ قبل سبعة أشهر). ومن شأن ذلك إضفاء مزيد من الأهمية على الوثيقة، ومن المحتمل أن يضطلع بقيادة "مجموعة صغيرة رائدة" جديدة مسؤولة عن تنسيق عمليات الإصلاح (ثمة شائعات تقول إن رئيس الحزب في شنغهاي هان جينغ قد يوفد إلى بكين لمساعدته).حفلت كلمة الرئيس الصيني تشي أمام المؤتمر الحزبي الثالث بلغة وتعابير إصلاحية. وقد أشار إلى تحذير دينغ زياو بينغ في عام 1992 من بلوغ "طريق مسدود" إذا فشلت البلاد في تحقيق إصلاح وتحسين مستويات المعيشة. (لكنه لم يذكر ماوتسي تونغ رغم أنه كان يميل إلى ترديد بلاغة ماو في العديد من الخطابات الحديثة الأخرى). وكان تشي واضحاً وصريحاً في تناوله للتحديات التي تواجه الصين قائلاً: "إن نموذج التنمية "غير متوازن"، و"غير منسق"، و"غير مستدام" (رغم كونه بالتأكيد ليس أول زعيم صيني يقول ذلك). إضافة إلى ذلك تابع متحدثاً عن "التناقضات الاجتماعية" والنضال "الحاد" من أجل احتواء الفساد.وقال الرئيس تشي إن "توقعات العامة حول الإصلاح كانت "عالية"، وعلينا بكل تأكيد ألا نضطرب ونتردد"، مشيراً إلى استحالة مضي الإصلاحات كلها بطريقة سلسة ومن دون مجازفة: "فالأشياء التي ينبغي القيام بها يجب أن نتصدى لها بشجاعة".ومن المرجح ظهور المزيد من التفاصيل حول ما يدور في ذهن الرئيس الصيني تشي خلال الأسابيع المقبلة. وسيعقد زعماء الحزب والحكومة اجتماعاً آخر في شهر ديسمبر المقبل، بغية تقرير استراتيجية اقتصادية للسنة المقبلة، كما سيتم عقد اجتماع مماثل يكرس للقضايا الريفية في وقت لاحق من الشهر. الكلام إيجابي جداً، ولكن سيتعين على تشي التصدي لمقاومة عميقة للتغيير في أوساط المشاريع المملوكة للدولة، والحكومات المحلية وحتى طبقة حضرية متوسطة تحب فكرته حول "العدالة الاجتماعية"، لكنها لا ترغب في التضحية بتآكل ميزاتها الخاصة من خلال منح قدرة وصول متساوية إلى الرعاية الصحية والتعليم إلى المهاجرين القادمين من الأرياف. وكما أصاب القرار في القول، فإن الإصلاحات دخلت في "مياه عميقة".