زاهي وهبي في «انتظار الغريبة» يشير إلى جملته أن {كوني حين يكون الحبّ... فتكون}

نشر في 19-02-2014 | 00:01
آخر تحديث 19-02-2014 | 00:01
No Image Caption
نادراً ما يقتنع شاعر من شعراء الحداثة بأنّ الوضوح ليس معصية وأنّ دخول القارئ إلى دائرة المعاني والأحاسيس بلا عناء ليس هزيمة للشاعر. ونادراً ما يلوذ شاعر بالوضوح دون أن يصطاده فخ الثرثرة فيقع في تجربة الهدر اللغويّ.
في جديده الشعريّ {انتظار الغريبة} يواصل الشاعر زاهي وهبي الإقامة في خيام اللغة العاشقة، والاستعانة بمفرداتها القادرة على التحوّل فضّة في مرآة الروح المخصّصة لاستقبال وجه الحبّ وحده.
صار زاهي وهبي يعرف جملته مثلما هي تعرف الطريق إلى قلمه، يشير إليها أن كوني حين يكون الحبّ فتكون، وتحضر كعادتها مزيّنة بوضوحها، وآخذة من الخيال ما يأخذ الطفل من الخيط لطيّارة ورق يريدها أن تبعد عن اليد وتبقى حصّة العين. أمّا لغته فهي تنتسب إلى الحياة وليس على حروفها شيء من غبار القواميس، وهي بعفويّتها وبساطتها تتقن احتضان الحالة الشعورية بكل ما فيها من حرارة القلب والتهاب الجسد واشتهاء العقل.

في {انتظار الغريبة}، ينتظر وهبي غريبته خارج أسر المكان، وخارج قفص الوقت الصدري، فهي تطلع من قمقم الخيال، تتجلى مارداً من عطر لابساً كثافة الحياة في مياه الينابيع: {أنتظرك يا غريبة/ بلا أمكنة بلا مواقيت/ من غامض أخيلتي تأتين/ مسبوقة بالعطر، بالبساتين.../ على الشفتين حشد ينابيع}. وتحت سماء الحبّ لا يكتفي الشاعر بالمرأة، إنّما يلوذ أيضاً بطفليه بكلّ ما في صدره من قفير الأبوّة: {كما ينتظرني طفلاي ساعة المغيب}، ويدوّن تفاصيل حبّ يوميّة لم تصطدها شبكة العادة، فبقيت محتفظة بقدرتها على مدّ الوقت باللهب الكافي ليصنع الحياة: {أمس في المنام / أضأتِ ليلي / بقبلة فوسفوريّة/ ومضيتِ كريش طائر}. وإذا كانت اليقظة سخيّة على حبيبين، فوهبي يستعين بلغة النوم محاولاً العبور إلى أنثاه في ظلال مفردات متوّجات بالشوق: {أفسّر مفردات نومي/ أستعين بقاموس الاشتياق}. وهو يعرف كيف يسترجع البدايات ويسعى إلى الاستيطان فيها شعوريّاً، كأنّ البداية هي النبع الذي يجب أن نعود إليه كلّما صرنا طاعنين في الطريق والرحلة قِبلة الحبّ: {أنتظرك منذ الخامس من شهر الكرز/ منذ الرجفة الأولى/ وخمر البدايات}. وتبدو المرأة التي يملأها الشاعر غربة تحسن الإقامة في القصيدة وفي الواقع في آن، وهي تحيي القصيدة بما فيها من واقعيّة و«تُشَعْرن} الواقع بما فيها من انتماء إلى القصيدة: {أرسمكِ في البال قصيدة/ وفي الخيال مهرة لهب/ نبكي معاً، نضحك معاً/ بالثرثرة نمحو عتم الليل/ مطلع الفجر نتّحد في اختلاط الحواسّ}... فقلّما تحضر النساء في المكان والزمان وفي اللغة الشاعرة في آن ومن جمالات الحياة الاستثنائية أن تحيا المرأة وقصيدتها تحت سقف واحد... ومن اللافت في غريبة الشاعر أنّها واحدة من نساء الحزن، وأنّ للأنوثة والكآبة فيها عناقاً طويلاً، لكنّ منتظر الغريبة الحزينة متفرّغ لتحدّي الحزن وترويض الشجن والوصول إلى باب الفرح الذي قد يكون مفتاحه الذهبيّ دمعتين حين اجتمعتا صارتا ابتسامة: {تعالي/ لأطوّق خصرك بتميمة يديّ/ لأروّض الشجن المرّ بين جفنيك/ تعالي/ دمعتان معاً تصيران ابتسامة}...

لغة خداعة

وممّا لا شك فيه أنّ لغة وهبي الشعريّة خدّاعة، إذ إنّه يمضي نحو خيال يوحي بأنّه قريب إلاّ أنّه كالماء عند أوّل البحر يستسهل النزول إليه من يصدّق عينيه، لكن سرعان ما يكتشف أنه في قبضة العمق وأنّ العين تقول ما تراه غير أنّ شبكتها لا تطال كلّ شيء. وخير مثال على هذا الطرح قصيدة {تُبعثر الهواء}. يصف وهبي أنثاه، فيطرّز منديلها بالرغبات، ويطارد بحدسه فكرة ترتدي الغموض تحت الجلد، {عنق مشعّ من ثنايا منديل مطرّز بالرّغبات/ فكرة غامضة تحت الجلد}... مَجاز هذه القصيدة يجمع بين القرب والبعد، يمدّ مسافة المعنى قصيرة وطويلة بين المفردات، يغري المعاني بالالتباس الجميل... ويتمادى الشاعر في تحريض خياله على الجمال فيصير فنجان القهوة ناياً: {أحتسي قهوتي بشفتين عازفتين}، ويغدو شعر الغريبة على كتفيها ليلاً على جبل لا يقوى الثلج على مغادرته: {ضفائر سود على كتفين ربيعيّتين/ كأنّه ليل يستلقي على صنين}، وتصبح الشهوة على كثافتها ذات جيش شهيّ الزحف: {أمرّ على أسرار السرّة جيشاً من نمال الشهوة}...

وأمام عاديّات الحياة اليوميّة لا يقف وهبي الشاعر متفرّجاً، إنّما يمدّ قلمه عميقاً إلى بئر اليوميّ، واضعاً يده في يد العصر لأجل قصيدة تنتمي بصدق إلى عصرها، وعليه، فإنّه يدعو إحدى قصائد مجموعته الجديدة إلى أن تعتمر عنوانها الحديث {واتس آب!} إلاّ أنّ هذا العنوان لم يمنع القصيدة من أن تكون ذات لغة شاعرة لا تعرفها لغة الواتس آب ولا تمتّ إليها بصلة. وأغلب الظنّ أنّ الشاعر يحاول ببعض مفرداته تقليص مساحة غربة الشعر عن الحياة، لذلك لا يستغرب القارئ وجود كلمات مثل {وكافِيين، وواتس آب، وتويت، ولايك}... في نصّ زاهي وهبي الشعريّ.

وتحضر الحرب في {انتظار الغريبة} حضور الحبّ. ويسعى الشاعر إلى الاستمرار في رحلة الحبّ رغم العاصفة التي تعلّق في أغصان الشجر فاكهة النار، وتعلّق الناس جثثاً في أغصان شجرة الحياة. حتى في حضرة الموت والخوف وجنون الطغاة لا يستقيل وهبي من مملكة مشاعره: {لشفتيكِ طعم رطوبة الملاجئ/ لرغبتي رائحة نار وبارود/ جلدي يتنفّس دخاناً/ جسدي آخر المتاريس/ اختبئي في عروقي/ في ثنايا الروح/ ولندر ظهرينا لعالم يتأكسد}.

أمّا في قصيدة {ماذا تعرفون عن الحرب؟} فيحضر سرد شعريّ من أجواء الحرب اللبنانيّة، ويظهر الشاعر واقفاً في ظلّ ضمير المتكلّم، وهو عاشق أيضاً لكنّ عشقه يخصّ حبيبة واحدة اسمها الأرض. وهذا العشق يحتاج إلى بندقيّة أطول من ظلّ صاحبها الفتى، الذي يمضي إلى الحرب أو إلى الحبّ بالنزق نفسه إذ إنّ الأرض والمرأة هما في حاجة دائمة إلى الشهداء لتبقيا على قيد الحياة والجمال: {لم أكن أملك كماناً لأعزف/ ولا تذكرة لأرحل/ حملتُ بندقيّة أطول من ظلّي/ خبّأتُ في جيبي أفقاً آخر/ على زندي تمائم الوالدة}... وكم هي هذه الوالدة كثيرة الأمومة في قصائد وهبي، إنّها المرأة الدائمة والفردوس الذي لا يصنعه الله مرّتين... لم يتغيّر زاهي وهبي في {انتظار الغريبة}. إنّه الشاعر يسوق قطيع مفرداته في حدائق القلب تحت سماء تمطر حبّاً من غيوم طاعنة في الزّرقة.

back to top