لعله من دواعي التفاؤل أن كلاسيكيات الفكر والأدب تظل ماثلة في المشهد المعاصر، وحاضرة بين ظهرانينا. تجد ذلك في معارض الكتب والمكتبات الثقافية الرصينة، وتكاد تتعجب من قدرة هذه الآثار على البقاء عبر الطبعات المتتالية التي لا تنفد. ولعل ما يسهل أمر طباعتها دون معوقات، أنها تكاد تكون مشاعاً وحقاً عاماً، الأمر الذي لا يستدعي الدخول في مطالبات حقوق النشر وما إليها.
لك أن تتجول في أي معرض للكتاب، لترى ذلك الكم من طبعات المصحف والتفاسير القرآنية ودواوين الشعر القديم وكتب التراث والتاريخ والمصنفات الفكرية، مبذولة عند كل دار نشر ومؤسسة طباعة. ولعل أمر الحق المشاع لا يقف عند هذه الآثار التراثية في عمومها، بل بات يمتدّ إلى مؤلفات العصر الحديث ككتب العقاد وطه حسين وأحمد شوقي وجبران خليل جبران ومعاصريهم، ممن لم يعد لهم مع تقادم الزمن ورثة شرعيون يطالبون بحقوقهم الأدبية والمادية. والتساؤل حول الحق المشاع ربما يمتدّ الآن إلى المؤلفات الأحدث زمناً، كشعر السياب وروايات نجيب محفوظ وأدب شوقي ضيف وفكر فؤاد زكريا وتأملات زكي نجيب محمود؟ ذلك كان مجرد تساؤل حول الكنوز التي لا تنفد، والتي لا بأس من إعادة تحديث خطاباتها وجعلها مبذولة للقارئ، مع بقاء شروط المفاضلة والتنافس كجودة الطباعة وحسن التقديم وجمال الإخراج. تلك خاطرة جرني إليها ما لاحظته في زيارتي لمعرض الكتاب الأخير من إعادة طباعة مؤلفات جبران خليل جبران بأغلفة حديثة وإخراج جيد. الأمر الذي يدل على الإقبال على هذا اللون من كلاسيكيات الأدب الحديث، الذي يبدو أنه لم يفقد وهجه وعنفوانه رغم تغير ذوق العصر وسطوة لغة الفضاء الإلكتروني. فالكتابة الجبرانية على وجه الخصوص كانت ولاتزال تمتلك تلك الروحانية الآسرة التي بدت أكثر رحابة من عصر المزاج الرومانسي الذي انبثقت منه مطالع القرن العشرين. ذلك أنها كانت تمتاح من بئر أكثر عمقاً وصفاءً، وينبوع يعطش إليه الإنسان في كل أوان وعصر، وهو ينبوع الروحانية بغموضها وحضورها الدائم. أنستُ بإعادة قراءة كتاب جبران: (يسوع ابن الإنسان) في الأيام القليلة الماضية. وهو ليس كتاباً في العقيدة أو الدين بقدر ما هو كتاب في الشعر والتأمل والبحث فيما وراء العقائد والمعاني. وجبران ليس واعظاً أو حكيماً وإنما تستهويه الفكرة المطلقة، فيعيد هندستها وترويضها بما لا يتعارض مع المبادئ الإنسانية والأهداف السامية التي طالما بشّر بها. ويبدو أنه كان يتلمس أشواق الإنسان إلى المحبة والحرية والثورة على الجمود والتقاليد البائدة، ويعرف التحرّق إلى الانعتاق والتجدّد والبحث عن الضوء في عتمة الأشياء. و(يسوع ابن الإنسان) ليس سوى إعادة لحكايات وأقوال وردت في الأناجيل التي سطرها معاصرو السيد المسيح، ولكن برؤية أخرى وصياغة مختلفة، وانتقاءات مقصودة . وكانت ثمرة الكتاب ترجيحه إنسانية المسيح لا ألوهيته ، فالمسيح كما يقول «لم يكن إلهاً، بل كان إنساناً مثلنا». وكذلك لم يكن في صورة الذليل الضعيف المستسلم كما تروّج الكنيسة» ولم يعش خائفاً ولم يمت شاكياً متوجعاً، بل عاش ثائراً وصُلباً متمرداً ومات جبّاراً». وأن الجديد في رسالة المسيح أنها رسالة غفران ومحبة، وأن نبوته استلزمت كدحاً ونصباً وتعطشاً للوصول إلى الحق، وفي هذا جذر إنسانيته المعبرة عن الرغبة في الترقي والوصول. نستطيع أن نقول باختصار ان (يسوع ابن الإنسان) كتاب في الشعر، وكتاب في تجديد الخطاب الديني المسيحي، وكتاب في الرأي الحرّ، وأخيراً كتاب حول الرؤية العصرية للعقيدة والنبوة. يقول جبران قرابة الخاتمة مخاطباً السيد المسيح:«حيثما حملتني خيول الأرض أو سفن البحر، كنتُ أرى اسمك إما صلاة ترتفع من القلب أو موضوعاً لمجادلة يقوم بها الفكر. والناس حزبان: حزب يباركك وحزب يلعنك. إن أصدقاءك ما زالوا في وسطنا، وأعداؤك أيضاً معنا. وأمك معنا، فقد رأيتُ نور وجهها في محيا جميع الأمهات. ومريم المجدلية لا تزال في وسطنا. ويهوذا، رجل الآلام والمطامح الصغيرة، ما زال يمشي في أرضنا. إن ما يقدمه الناس أمام مذبحك من القداديس والترانيم، والأسرار والذبائح، إنما هو لأجل ذاتهم السجينة! فأنت وحدك ذاتهم البعيدة، وصراخهم الشاسع، وشوقهم وحنينهم».
توابل
يسوع ابن الإنسان
18-02-2014