شخصياً لم أقطع حاجزَ الخوف فحسب، حين قطعتُ الساعاتِ السبع والنصف إلى واشنطن، بل قطعتُ دابرَ المخيلة التي أنشأتْ مدنَ الولاياتِ المتحدة على هواها. حاجزُ الخوف من السفر الجوي الطويل على المحيط، رغم هدوئه، كان بحجة علل القلب. صحيح أني سبق أن سافرتُ إلى الكويت ودبي، وقطعتُ الساعات ذاتها. ولكن المخافةَ كانت مُدجنةً برعاية مشاعر الألفة العربية. أما دابرَ المخيلة فلأني منذ الصبا الأول جامحُ الخيال في بناء معمار هذه الولايات البعيدة بإزميل الكتب والسينما واللوحات والصحافة. ألم أقرأ قصائدَ باوند، وكارلوس وليمز، وكامنغز، وطيش البيتز، والجبل الأسود، والمعاصرين؟ ألم أرَ فيلم «كنغ كونغ» والسوبرمان، والباتمان، ولكمات جيمس كاجني، ومسدسات همفري بوغارد؟ ألم أتأمل لوحات هوبر، ولطخات بولوك، وارهول وروثكو؟ وأطلع في كل حين على خبر جامح، وابتكار مُجنّح، في الصحافة والتلفزيون؟ عناصر حديثة كفيلة بإطلاق العقل من عقاله، والمخيلةِ من غرفها العربية المُغلقة.

Ad

    كنتُ في الطائرة أتوقعُ أن أرى هذا الذي أقامتْ معمارَه المخيلةُ التي عرضتُ لها. ولكن توقعي خابَ، ومجسّاتِ مخيلتي المرهفةَ المُتطلعةَ ذوتْ كغصن. فالمطار كمطار لندن، ومسؤولوه وناسُه بالغو الرقة كثيرو الابتسام. وفي الشوارع رأيت العمارةَ والحدائقَ لا تحتمل وقعَ خطوات كنغ كونغ ولا أجنحة إنسان وطواط. والمدينة عامرة في عزّ استرخائها. قلتُ، ربما نيويورك وحدها، لا واشنطن، فهي عاصمة صغيرة لم تُحسب حساب الولاية، ونفوسها تتجاوز النصف مليون بقليل.

    بعد أربعة ليالٍ غادرتُ إلى مِشِغان، ديترويت، وكنت أطمع بالمزيد من مؤتمر بغداد الثقافي، ومن مشاهد الكونغرس، والبيت الأبيض، ونصب لِنكِن (الذي نلفظه لِنكولِن)، والبنتاغون، وشيء يسير من المتحف الوطني للفن الذي كان نصف مُغلق.

    ديترويت مدينة سيارة فورد، وكهرباء أديسون ومهجر الكثير من العراقيين والعرب. كانت بالغة الغرابة في طبيعة جغرافيتها وعمارتها. تجولت فيها داخل سيارة صديق، لأن التجوال على قدمين يكاد يكون منسياً. في الليل بدتْ لي عتمةً لا سكن فيها. في النهار اتضحت لي الأسباب. فاتساعُ المدينة أفقيٌّ، والفضاءاتُ بين الأحياء واسعة، والبيوت واطئة بطابق أرضي واحد، وساكنوها يفضلون الاقتصاد الأقصى في الإضاءة. ولذا يبدو التجوال الليلي فوق مقعد سيارة غير مضاء طبعاً، تجوالاً داخل أحراش برية لا حدود لها. على أني عرفت أن مدينة ديترويت/ مشيغان هي نموذج لمعظم المدن الأميركية. والمدن ذات العمارة العمودية معدودة مثل نيويورك، وسان فرانسيسكو، لوس أنجلس.

    جئتُ مدعواً لقراءةٍ شعرية وحديثٍ مفتوح مع مثقفي الجالية العراقية، تحت رعاية «منتدى الرافدين للثقافة والفنون». ولقد شاءت الندوة أن تتوزع على ثلاثة محاور: الجيل الستيني الذي أنتسبُ إليه، والنقد، والشعر والموسيقى. ولكن زمام الحوار إنقاد، لا بفعل ولعنا العراقي بزوايا نظرنا السياسية بل بفعل خبرة الأذى والألم، إلى جدل واستنطاق حار ومثير للحماس. كنت أعرف أن معظمَ آرائي ومواقفي النقدية وقصائدي خلافيةٌ، وتمسُّ الجراحَ النازفة، إلا أني أعرف أيضاً أنها ضرورية لا طمعاً بتسكين، بل تطلّعاً لعلاج. وكانت مواطنُ الخلاف والوفاق تقلّبُ لي صفحاتِ كتاب المهجر العراقي بحذر من يُلقي بقايا وجوده المُتعب بين يدي ملاك. كنت أتأمل فيهم العربي والكردي والآشوري والكلداني والمسلم والمسيحي والمندائي... كمنْ يتأمّل أصابعَ يديه. تحاول جميعُها أن تقبضَ على زمام عربة متهالكة في طريق معتم، وعِر. ولكني بقيتُ أُلحّ على مخاطر الفكرة الواحدة، باللمسة المقدسة. دينية هذه الفكرة أو دنيوية. قناعةُ العقل اعتقال له. يجعل صاحبه مدمناً على الرضا والإصغاء لما يُرضيه فقط. الأمر الذي يجعل هذا المعتَقَلَ مُعتماً ويَعمي البصيرة. وكان الجمهورُ حروناً حيناً، وحيناً مُتردداً، ومستجيباً أحياناً، وبالغ الكرم معظم الأحيان. انتهى الجمع أخيراً على مائدة عشاء طويلة، أرق ما يفتنُ الشهيةَ فيها رائحةُ الكباب العراقي وخبزُ التنور العراقي.

  بعد ليالٍ أربع حلّقت باتجاه نيويورك.