القارة التي تشمل جميع أنواع «التعساء»!

نشر في 29-05-2014 | 00:01
آخر تحديث 29-05-2014 | 00:01
ما الرسالة التي أراد الأوروبيون توجيهها إلى قادتهم في الانتخابات؟ اختصر رسام الكاريكاتير «شابات» الرسالة العامة حين رسم مجموعة من المحتجين وهم يحملون لافتة كُتب عليها «تعساء!»، وكان أحدهم يصرخ عبر مكبّر الصوت داخل صندوق الاقتراع، إذ يبلغ عدد الدول الأعضاء 28، وبالتالي ثمة 28 نوعاً مختلفاً من «التعساء» في هذه القارة.
 تموثي غارتون آش يوم اقتحام سجن الباستيل في عام 1789، كتب الملك لويس السادس عشر في مذكراته عبارة "لا شيء". اليوم، يقلّ عدد القادة الأوروبيين الذين سيقررون كتابة عبارة "لا شيء" على أجهزة "آي باد" المعاصرة، لكن يبرز خطر حقيقي في ألا يفعلوا شيئاً رداً على الصرخة الثورية التي اجتاحت مختلف أنحاء القارة. تحمل عبارة "لا شيء" في هذا العصر وجهاً واسماً؛ الاسم هو جانكر... جان كلود جانكر!

سيتكرر الرد الكارثي نفسه لكن مع تداعيات أخطر من جانب قادة أوروبا إذا قرروا أخذ جانكر (المرشح الأوفر حظاً ضمن أكبر تجمع حزبي في البرلمان الأوروبي الجديد، أي "حزب الشعب الأوروبي" اليميني الوسطي) وجعله رئيس المفوضية الأوروبية، إذ تولى هذا الرجل الحذق من لوكسمبورغ رئاسة الحكومة الوطنية للاتحاد الأوروبي وكانت ولايته هي الأطول، كما ترأس "مجموعة اليورو" خلال أسوأ أزمة شهدتها منطقة اليورو.

صحيح أنه يتمتع بمهارات لافتة كسياسي وصانع صفقات، لكنه يجسد جميع مظاهر انعدام الثقة من جانب الناخبين المحتجين، من المعسكرين اليساري واليميني، تجاه النخب الأوروبية البعيدة عن أرض الواقع، ويبدو أنه النسخة المعاصرة من لويس السادس عشر داخل الاتحاد الأوروبي.

يكمن الخطر أيضاً في ما يوشك أن يحصل داخل البرلمان الأوروبي، إذ إن التطور الأقرب إلى الواقع هو نوع من التحالف الضمني الكبير بين التجمعات الحزبية الأساسية راهناً، أي اليمين الوسطي واليسار الوسطي والليبراليين وحزب الخضر (في بعض المسائل على الأقل)، وذلك بهدف تهميش جميع التحركات المعادية للأحزاب، فإذا تقبّلت ستة أحزاب إضافية من بين الأحزاب المعروفة بنزعتها القومية وكرهها للأجانب تفوّق حزب "الجبهة الوطنية" برئاسة مارين لوبان، فإنها تتجاوز بذلك خلافاتها لتشكيل جماعة لها ثقلها داخل البرلمان، وستتمكن من الحصول على التمويل اللازم (من جيوب دافعي الضرائب الأوروبيين) وسيصبح موقفها أقوى على مستوى الإجراءات البرلمانية، لكنها لن تملك الأصوات الكافية لهزم ذلك التحالف الوسطي الكبير. إنه أمر إيجابي، أليس كذلك؟ نعم، على المدى القصير، لكن شرط أن يقرر ذلك التحالف الكبير دعم إصلاحات حاسمة في الاتحاد الأوروبي، إذ يجب أن يبدأ، رمزياً على الأقل، برفض التنقل السخيف من مقره الشاسع في بروكسل إلى مقره الثاني من حيث الفخامة في ستراسبورغ (نسخة من فرساي بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي) مقابل 180 مليون يورو في السنة، لكن إذا لم يحقق التحالف الضمني الكبير ما يفوق توقعات الأوروبيين خلال السنوات الخمس المقبلة، فستزداد قوة الناخبين المعادين للاتحاد الأوروبي في الجولة اللاحقة، وفي تلك الحالة، ستتحمّل جميع الأحزاب البارزة مسؤولية الفشل.

لكنّ الجانب الإيجابي الوحيد وسط هذه المعمعة التي تلفّ القارة هو أن نسبة المشاركة في التصويت لم تتراجع على ما يبدو، ويحصل هذا الأمر للمرة الأولى منذ بدء إجراء انتخابات مباشرة للبرلمان في عام 1979، إذ تتفاوت نسبة المشاركة بدرجة كبيرة بين بلد وآخر (تشير التقديرات إلى أنها تبلغ 13% في سلوفاكيا)، لكن في فرنسا مثلاً شارك عدد إضافي من الناخبين مقارنةً بالمرة الماضية.

لقد تحقق أخيراً ما دعا إليه مؤيدو الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة: مشاركة المواطنين الأوروبيين بكل زخم في عملية ديمقراطية تشمل الاتحاد الأوروبي كله، لكن تكمن المفارقة الكبرى في واقع أنهم شاركوا بهذه الكثافة للتصويت ضد الاتحاد الأوروبي.

ما الرسالة التي أراد الأوروبيون توجيهها إلى قادتهم؟ اختصر رسام الكاريكاتير "شابات" الرسالة العامة حين رسم مجموعة من المحتجين وهم يحملون لافتة كُتب عليها "تعساء!"، وكان أحدهم يصرخ عبر مكبّر الصوت داخل صندوق الاقتراع، إذ يبلغ عدد الدول الأعضاء 28، وبالتالي ثمة 28 نوعاً مختلفاً من "التعساء" في هذه القارة، حيث تنتمي بعض الأحزاب المعارِضة الناجحة إلى معسكر اليمين المتطرف: في هنغاريا مثلاً، حصد حزب "جوبيك" ثلاثة مقاعد وأكثر من 14% من الأصوات، كما حصل مع "حزب الاستقلال" البريطاني، واستمال معظم المرشحين الناخبين من معسكرَي اليمين واليسار، فاستفادوا من مؤيدي شعارات مثل "نريد استعادة بلدنا" أو "أجانب أكثر... فرص عمل أقل!"، لكن في اليونان، صبّت معظم أصوات المحتجين لمصلحة حزب "سيريزا" اليساري والمعادي لسياسة التقشف.

حدد سيمون هيكس، خبير في شؤون البرلمان الأوروبي، ثلاث مدارس أساسية للتعاسة: الأوروبيون الشماليون خارج منطقة اليورو (بريطانيون، دنماركيون)، والأوروبيون الشماليون داخل منطقة اليورو (مثل الألمان الذين احتفظوا ببضعة مقاعد لحزب "البديل لألمانيا" المعادي للاتحاد الأوروبي)، والأوروبيون الجنوبيون داخل منطقة اليورو (يونانيون، برتغاليون).

هكذا لا يبقى إلا الأوروبيون الشرقيون، علماً أن شريحة واسعة منهم تشعر بالتعاسة لأسبابها الخاصة، ونظراً إلى إمكانية تحليل مشكلة "التعاسة" من زوايا مختلفة، يصبح من الأصعب معالجتها، فمن المعروف أن حلم ناخبي حزب "سيريزا" في ما يخص سياسة منطقة اليورو هو كابوس بالنسبة إلى ناخبي حزب "البديل لألمانيا".

لكن ثمة أمر مشترك بينهم جميعاً: الخوف على الفرص في حياة أولادهم، فمنذ عشر سنوات تقريباً، افترض الجميع أن الوضع سيتحسن بالنسبة إلى الجيل المقبل من الأوروبيين، فكانت "أوروبا" جزءاً من قصة تقدم كبرى، لكن استنتج استطلاع رأي أجرته سلسلة الدراسات "يوروباروميتر" في وقت سابق من هذه السنة أن أكثر من نصف السكان يعتبرون أن حياة الأولاد في الاتحاد الأوروبي ستكون "أصعب" من حياتهم.

يشعر جيل من المتخرجين الأوروبيين أصلاً بأنهم حُرِموا من مستقبل أفضل كانوا يتوقعونه، لقد أصبحوا أعضاء في طبقة جديدة: إنها طبقة "الأكثر ضعفاً".

في هذه اللحظة الحاسمة بالنسبة إلى المشروع الأوروبي ككل، من المفيد أن نعود إلى الجذور، أي إلى مؤتمر أوروبا في عام 1948، حيث حذر المدافع عن فكرة الاتحاد الأوروبي، ريتشارد كودنهوف كاليرجي، نظراءه المؤسسين قائلاً: "دعونا لا ننسى مطلقاً، يا أصدقائي، أن الاتحاد الأوروبي هو وسيلة وليس غاية". إنها مقولة صائبة اليوم كما كانت حينها، فالاتحاد الأوروبي ليس غاية بحد ذاتها، إنه وسيلة لتحسين حياة الناس (عبر تعزيز الازدهار والحرية والأمن).

ما نحتاج إليه الآن إذاً هو التركيز التام على تحقيق الأهداف، ويجب أن تتوقف تلك النقاشات المؤسسية اللامتناهية، فلا تتعلق المسألة بالاختيار بين توسيع هامش أوروبا أو تقليصه، بل يجب أن نحدد ما يجب توسيعه وما يجب تقليصه، فعلى سبيل المثال، نحتاج إلى تعزيز هامش السوق المنفردة في مجالات الطاقة والاتصالات والإنترنت والخدمات، لكننا قد نحتاج إلى تقليص نطاق السياسة التي تقودها بروكسل في أوساط الثقافة.

يجب اتخاذ أي خطوة تنتج فرصة عمل واحدة لأوروبي عاطل عن العمل راهناً، ويجب تمزيق كل إجراء بيروقراطي من شأنه أن يطرد الناس من عملهم، فالوقت ليس مناسباً لأمثال جانكر، وهذه اللحظة تتطلب من المفوضية الأوروبية أن تشمل جميع أنواع المهارات، بقيادة شخص أثبت براعته، مثل باسكال لامي أو كريستين لاغارد، بمعنى أن يكرّس ذلك الشخص نفسه لإقناع مختلف فئات "التعساء" بوجود مستقبل أفضل لأولادهم في أوروبا.

هذا ما يجب أن يحصل، لكن هل سيتحقق ذلك؟ لدي شعور مخيف في داخلي بأن مؤرخي المستقبل قد يكتبون عن انتخابات مايو 2014 ما يلي: "كانت تلك الانتخابات بمثابة جرس إنذار لكن امتنعت أوروبا عن التحرك حين سمعته!".

* الغارديان

back to top