بيروت ... صراع الذاكرة والأبراج
في منطقة السوديكو (بيروت) التي كانت خط التماس في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، ثمة قناعان تدل عليهما عمارات تلك المنطقة، الأول مبنى بركات القديم أو البيت الأصفر الذي يحمل في طياته كثيراً من علامات الذاكرة اللبنانية، والثاني مشروع برج «سما بيروت» الواعد بمستقبل «خرافي»، فهو سيكون البرج الأعلى في لبنان ويبلغ ارتفاعه أكثر من مئتي متر.
في منطقة السوديكو في بيروت تلتقي ذروة ما يسمى «الحداثة العمرانية» وذروة ما يسمى «ذاكرة المدينة»، مشهد مألوف في مدينة اسمها بيروت لكنه في طريقه إلى الانقراض مع تنامي التوحش العمراني. يتجاوز برج «سما بيروت» كل التقليد ويسطو على السماء والهدف والغاية القول إنه «أعلى برج في بيروت أو لبنان»، يعيد الاعتبار إلى الصراع الرمزي حول المبنى الأكثر ارتفاعا في لبنان. فالنافل أنه في بداية الحرب اللبنانية حصل ما يشبه المنافسة بين برجي «رزق» في الأشرفية و{المر» في القنطاري لناحية الارتفاع، كأن امتلاك المباني الشاهقة يجعل المرء صاحب شأن كبير، بل يجعل الدول أيضاً على هذا النحو. قال المحلل الأميركي فريد زكريا إن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد دولة متفوقة في العمران من ناحية المباني الشاهقة، حيث يرتفع أعلى مبنى في العالم اليوم في دبي. وبيروت صارت مقصداً للأبراج والمباني الضخمة، وعلى مقربة من «سما بيروت» وفي وسط منطقة الأشرفية يرتفع مبنى يطل على الجهات كافة، على البحر والجبل وغيرهما، يراه الآتي من منطقة خلدة ومن منطقة جونيه، إنه البرج الذي يطبق مقولة «حتى يشوفوا البحر، حجبوا عنا السماء»، هذه هي المعادلة الجديدة في المباني الحديثة. لم تعد المباني الضخمة تترك متراً واحد للفضاء العام، كأنها تضع أساساتها فوق الأرصفة وتستولي على البحر والسماء، وبذلك يصبح أي معلم من معالم ذاكرة المدينة مهمشاً أو على طريق الازدراء والموت.
مدينة عموديةسيتصدر برج «سما بيروت» واجهة المباني في بيروت ويتحول معلماً من معالم هذه «المدينة العمودية»، وهو إذ يقترب من مبنى بركات يحمل دلالات على التنوع، فالأخير بدأ العمل على ترميمه من بلدية بيروت بغية تحويله متحفاً للحرب اللبنانية، وهو المبنى الراسخ في الذاكرة الذي يعود تاريخ تشييده إلى العشرينيات من القرن الماضي.وتكمن أهمية الحفاظ على مبنى بركات في كونه يوثّق لمرحلة انتقالية في تاريخ لبنان العمراني، يروي ذاكرة حرب دمرت مدينة كانت في طور التشكل، كل حجر فيه له حكايته وكل غرفة لها قصتها، خصوصاً أنه نجا من طموحات وحوش المباني الخرسانية التي كانت تفكر في هدمه. ما يرويه مبنى بركات يكفي ليعمر مملكة من الحكايات. أما مشروع «سما بيروت» فشكل آخر من العمارات «الثورية»، يشكل علامة فارقة في لبنان في القرن الواحد والعشرين بارتفاعه وهو بكل تأكيد خروج عن التقليد البيروتي ومواكبة لنمط مدينة دبي أو المدن التي تتنافس في تشييد الأبراج.