لا أستسيغ منطق الشهادة ولا الكتابة عن الشهداء، خصوصاً أن {الشهادة} دخلت في دائرة القداسة المطلقة والتوظيف الأيديولوجي والشعبوي، لا أستسيغ منطق ثقافة الشهادة وشعرها وتداعياتها، خصوصاً أن الشرق الأوسط بمعظمه يعيش على بحر من الدم، على الأقل منذ بدء الصراع العربي الإسرائيلي قبل أكثر من ستين عاماً، مروراً بالحروب الأهلية اللبنانية والسورية والعراقية وموجات الإرهاب «الثوري» والجهادي وموجات الأنظمة القومية والثورية. باتت المنطقة موئل الأرامل والمقابر والبؤساء والأشلاء والانتحاريين، والقتل طاول المواطنين العاديين والرؤساء والقادة والصحافيين والأطباء والأطفال والمشردين وحتى الأشجار...
لا أستسيغ منطق الشهداء ولا أتناول الأشخاص من موقع شهادتهم ودمهم و{قدسيتهم}، أشعر بالسأم والمرارة من هذه القضية التي باتت طقساً يومياً بالنسبة إلى بعضهم، وحين أتأمل مثلاً لحظة اغتيال سمير قصير أشعر بالحيرة والقلق، وأهجس بمعنى الأشياء من حولي، أهجس بمعنى أن يتحول كل شيء من حولي مشهداً عبثياً، من الحياة نفسها إلى الدولة إلى الجماعات السياسية وخطبها الهذرية وصولاً إلى الثقافة وأركانها... أسأل، لماذا اغتيل سمير قصير ومن أغتاله؟ هل الكلمة مخيفة إلى حد الحد حتى تتم تصفيته جسدياً؟! هل كانت السياسة بحاجة إلى جنازة لتنتصر؟ وماذا يعني أن يتحول الصحافي أو أي شخص آخر صورة على جدار مدينة أو ضاحية، أو شخصاً خلف الأمين العام لحزب الله، أو في غرفة الأمانة العامة لـ14 آذار؟ أسئلة عبثية في بلد عبثي يموت أركانه وناسه في لحظات عبثية.استذكر أصدقاء سمير قصير اغتياله صبيحة 2 يونيو، مرَّ على اغتياله تسع سنوات، انقلبت السياسة اللبنانية رأساً على عقب، تبدلت الأحوال والأشكال، وبدا أن حقيقة اغتيال قصير تطمس في دائرة المنازعات والمناكفات والتبدلات والترهات، ويبقى حضوره في مهرجانه وفي كتبه وفي وجدان بعض أصدقائه الذين يكتبون وجدانياتهم وينشرون صوره وبعض أفكاره وكتبه، على أن بعض {زملائه} ربما نسوه ونسفوه تبعاً لمصالحهم وتنقلاتهم. وما ينبغي تذكره جيداً هو أن قصير اغتيل في خضم صعود موجة جمهور 14 آذار وحشوده، لكن في تشييعه كان عدد ضئيل من محبيه، كأن لا قبيلة للراحل لتحشد في وداعه، رأينا خيانة لأفكاره ونبله، تهميشاً مقصوداً تتبعه القبائل والعصبيات اللبنانية بحق من يكون خارج نطاقها. كأن قصير قتل في الزمن الضائع وخارج الفرق الناجية. لا عجب إن كان جناز سمير رمزياً. حتى قداسه كان أكثر رمزية في عدد الحضور، ففي هذا البلد لا تزال عاجزاً عن تعريف من هو {الشهيد}، فالشهيد هنا عميل هناك والقديس هناك شيطان هنا. حتى سمير قصير {الصحافي الأعزل} طاوله اللغو التخويني من جماعة {أكلة البقلاوة}، فيحكي أن أحد المهللين للحرية اليوم ومدعي {نصرة فلسطين}، شمت بقوة في اجتماع جريدة عروبية باغتيال قصير، شعر {الصحافي} منتحل الصفة بالنشوة لأن زميله اللدود قتل بعبوة ناسفة مزروعة في سيارته، العار الذي حصل في الجريدة العروبية بقي شبه مكتوم لمدة... وأبعد من ذلك، كأن سمير قصير اغتيل عشرات المرات بعد اغتياله الجسدي، اغتيل في جنازته، واغتيل في الإشاعات التي أطلقها بعض الأجهزة الأمنية ضده، واغتيل وسط يسار مترهل كان يتناتشه، فثمة فئة يسارية متزمتة وتكفيرية رفضت قصير بالمطلق وثمة فئة يسارية حاولت جعله محور انبعاثها كأن اليسار لا يعيش إلا إذا كان لديه رزنامة من الشهداء، وبعض المثقفين الجهلة يقتات من أفكار الراحل...وبمنأى عن الرومانسية التي تجمع {أيقونة} قصير بمحبيه، يمكن تأمل أفكاره من موقع راهنيتها مع أنها أفكار بديهية وليست {مقدسات}، خصوصاً تلك الواردة في {ديموقراطية سوريا شرط لاستقلال لبنان}، وكتابه {تأملات في شقاء العرب} الذي كتب عنه الياس خوري. لا تكمن أهمية كتاب سمير قصير في غياب مؤلفه، غير أن الموت أضفى طابع الوصية على نص أراده صاحبه تأسيسياً. نقول عن أفكار قصير الآن بُداهات ولكن في لحظة كتاباتها كانت جرأة، خصوصاً أنه هو من كتبها وكان ملاحقاً.أعتز بثقافة سمير قصير الواسعة وكتاباته التأريخية عن الحرب الأهلية اللبنانية، خصوصاً {حرب السنتين}، ولكن أرفض تحويل عباراته البديهية مثل {عودوا إلى الشارع أيها الرفاق} إلى مقدسات لفظية وفيسبوكية، وعناوين لمقالات بعض اليساريين، كأن بعض هؤلاء لا يعرف من قصير إلا هذه الجملة، أو جملة {عسكر ع مين} التي كتبت على أحد جدران بيروت ذات يوم وعلَّق عليها قصير ضمن مقال له.باختصار، أجد في اغتيال سمير قصير فصلاً من فصول الزمن العبثي الذي ما زال يخيم على لبنان. وعلينا قراءة قصير خارج لعبة المقدسات والعصبيات.
توابل
عن اغتيال سمير قصير
06-06-2014