ليس من السهل على الإنسان أن يعطي... هذا الكائن المجبول على الأخذ منذ أن كان جنيناً، ليس سهلاً عليه أن يخرج إلى الدنيا ويده وقلبه مبسوطان وممدودان بالعطاء لشخص آخر، لم يخلق الإنسان شجرة، أو نهرا، أو سحابة، بل خُلق إنساناً... تتملكه الأنانية، ويحرّضه الجشع، وحب الامتلاك.

Ad

الإنسان... طين لا يرتوي أبداً مهما أغرقه الماء، لا يكتفي مهما امتلأ بالمزيد،

والعطاء... يخالف هذه الطبيعة الجشعة في الإنسان، لو كان العطاء سهلاً ويسيرا، لما حثت على فعله الأديان، ورغّبته إلى قلبه، بل ووعدته بمكافأة جزلة إن فعل،

كل الأديان السماوية بلا استثناء أجزلت الثواب لمن يعطي، وضاعفت له الأجر في الدنيا وفي الآخرة، وكذلك فعلت الأديان غير السماوية أيضاً، كل الأديان اعتبرت العطاء قيمة نبيلة وسامية، وحاولت أن تدفع الإنسان دفعاً للتحلّي به، وجعلت المُعطي في منزلة عليا من الخلق الكريم، بل إنها لم تتوقف في فهم العطاء عند حدّ ذلك المتبادل بين الإنسان وأخيه الإنسان، بل وسّعت دائرة العطاء الإنساني ليشمل كل الكائنات الحية.

لكن يبقى مدى هذه الوصايا الدينية والأخلاقية في العطاء مفتوحاً بين ضفة الطاعة وضفة العصيان، فينا من يمتثل لها وفينا من يصمّ قلبه الجشع والأنانية فلا يصغي لذلك النداء الكريم، الحب فقط هو ذلك الشعور الذي يجعلنا ننزع طائعين تلك السدادة الحجرية التي تسد سمع قلوبنا.

الحب فقط يداوي قلوبنا برغبة خالصة منّا من علّة الصمم، الحب فقط قادر على أن «يشجّرنا»، وأن يجعلنا نجري على الأرض أنهاراً، وأن يشكّلنا سحابا مليئاً بالمطر يشد من أزر الغيث!

نحب فتكتنز قلوبنا بالندى، وأيادينا، نعطي دون أن نسأل لماذا نفعل ذلك، نجد لذة في أن نعطي من نحب بلا حساب، كلما أعطينا شعرنا أننا أقرب لذلك القلب الذي أحببنا، وأحسسنا بالرضى عن ذاتنا، وحسن سلوكنا في الحب، تخيّلوا معي عظمة الحب، تفشل الأديان والأخلاق في إقناع بعض البشر بالتخلى عن الشحّ، رغم الجزاء العظيم الذي سيجنيه هذا البعض من العطاء، والمكافآت الكبيرة التي يوعدون بها في الدنيا والآخرة، علماً بأن وعد الله حق، إلا أن كل ذلك قد لا يقنع البعض في نزع شجرة الأنانية من قلبه أو على أقل تقدير أن يسوّرها بسور ضيق جدا حتى لا تمتد أغصانها لتغطي القلب، بينما يجعل الحب هؤلاء يعطون بلا حساب حتى دون أن يعدوا بأي شيء، سوى أمل في بسمة رضى، أو كلمة حانية!

أليس ذلك مذهلاً؟!

الحب يغسل شرور أنفسنا، ويطهّرها من سيئاتها، ويخلّصها من نزعتها الأنانية، ويعوّدها على العطاء...

وأجمل العطاء حينما نحب، أن يكون عطاؤنا خالصاً لوجه الحب، وليس لوجه الحبيب فقط! وحينما تكون غاية عطائنا رضى الحب قبل رضى الحبيب، وحينما يكون عطاؤنا بلا مِنّة أو ندم حتى لو لم نحصل من ذلك العطاء سوى كلمات شكر شفهيةٍ وربما منقولة أيضاً، من الحب لقلوبنا!

الحب هو: أن نعطي دون انتظار ردّ العطاء.