هل ترى في هولندا أن العالم العربي يعاني من مرحلة الفتنة التي قد تؤدي إلى حروب أهلية؟

Ad

رحب مسلمو هولندا في البداية بثورات الربيع العربي كثيراً، كونها نبعت من إرادة الشعوب العربية ذاتها، ولكن بمرور الوقت بدأت تلك الثورات للأسف الشديد تفرز ظواهر أقلقتنا جميعاً، خصوصاً والكل يعرف أن الجاليات الإسلامية في الغرب تتكون من أعراق وقوميات مختلفة. ولهذا سارعنا للتأكيد على أن الجالية المسلمة في هولندا تتعامل مع الأحداث داخل بلدان الربيع العربي من منطلق دعم إرادة الشعوب ورفض تدخل الغرب في رغباتها، كذلك طالبنا بعدم إقحام الجاليات المسلمة في الغرب في قضايا هامشية مثل الوقيعة بين العرقيات المختلفة التي تتكون منها تحت ستار تأييد كل قومية لبلدها، وهو ما قد يؤدي إلى تفتيت تلك الجاليات، فيفقدها وحدتها وقدرتها على التعايش بسلمية في أوساط الدول الموجودة فيها. باختصار، طالبنا المسلمين في الغرب بعدم الإنجرار وراء التحزب السياسي الذي بدأ ينتشر في الدول العربية، وأدى إلى انتشار ظاهرة التخوين والتكفير وغيرها من ظواهر مثيرة للقلق على مستقبل أمتنا بأسرها.

كيف تتصدون للفتاوى الغريبة التي من الممكن أن تثير الفتن بين المسلمين في هولندا؟

للأسف، كثيراً ما يصدر لنا العالم الإسلامي فتاوى تكفيرية ما أنزل الله بها من سلطان ونحن نحيا في بلدان تنظر إلى المسلم على أنه إرهابي، فماذا لو اعتنق فكر الجهاد ضد غير المسلمين كما يروج بعض الدعاة والعلماء! كذلك نتعرض أحياناً للسخرية بسبب الفتاوى الغريبة التي يصدرها علماؤنا. فقد تعرضنا للسخرية مثلاً مع ظهور فتوى إرضاع الكبير وظللنا لفترة طويلة نعاني من تلك السخرية، وبعدها عانينا من الدعوة لقتل فأر الكارتون {والت ديزني} والذي طالب أحد العلماء بالتخلص منه! هنا أود التأكيد على أن أكثر ما يؤرق المسلمين في هولندا هو إمكانية تصدير الفتنة من الشرق المسلم إلى الجاليات المسلمة في الغرب عموماً وهولندا تحديداً، خصوصاً لو علمنا أن بعض المسلمين الوافدين إلى أوروبا حمل معه انتماءاته السياسية والمذهبية. ليس هذا فحسب، بل نقل إلى المسلمين الجدد الخلافات المذهبية والعقائدية عند المسلمين, إذ لا يفرق المسلم الداخل في الإسلام كونه على مذهب أهل السنة والجماعة أم من الشيعة أو الفرق الأخرى، أو ينتمي إلى السلفيين أو الصوفيين أو الإخوان... وهكذا  تعددت  مصادر الفتوى وتضاربت وكثرت الخلافات الداخلية الفكرية والعقائدية، ولهذا يحاول المسلمون دائماً إيجاد الحلول للمشكلة الكبرى وهي المشكلة الداخلية بتنظيم الفتوى وإيجاد ثوابت فقهية.

ما آليات مواجهة المشاكل التي تهدد مستقبل الجاليات المسلمة؟

نطالب دوماً أعضاء الجالية المسلمة في أوروبا بالابتعاد عن التحزب السياسي لخطورته الشديدة على مستقبل الإسلام في البلاد غير المسلمة، لأن فتح الباب أمام تحزب جماعة مسلمة لتيار سياسي بعينه يعني تحزب جماعة أخرى للتيار المضاد، وفي ظل الأحداث الضبابية التي يشهدها الكثير من البلاد العربية قد يحدث ما لا تُحمد عقباه، وتنتقل الصراعات المسلحة من الشرق للغرب، والأمن في الدول الغربية يتعنت في الأساس مع المسلمين، فما بالنا لو تحولت خلافاتهم السياسية إلى صراع مسلح، ولهذا نحن نبحث حالياً عن ميثاق يلزم جميع المسلمين في الغرب بعدم تحويل الآراء السياسية إلى صراع أو فتنة يستفيد منها أعداء الإسلام.

أضف إلى ذلك؛ مخاطبتنا المجلس الأوروبي للإفتاء من أجل تفعيل التوصيات التي أصدرها الكثير من المؤتمرات الإسلامية، بشأن فقه الأقليات على اعتبار أن من أهداف الأخير، أن يعين الأقليات الإسلامية على أداء واجباتها المختلفة: الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، من دون أن يعوقها عائق، من تنطع في الدين أو تكالب على الدنيا، ومن دون أن تفرط في ما أوجب الله عليها، أو تتناول ما حرم الله عليها، ومن دون أن تثار بينها الفتن. وبهذا يكون الدين حافزاً محركا لها، ودليلاً يأخذ بأيديها، وليس غلا في أعناقها، ولا قيدا في أرجلها، ويجيب عن أسئلتها المطروحة، ويعالج مشكلاتها المتجددة، في مجتمع غير مسلم، وفي بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، في ضوء اجتهاد شرعي جديد، صادر من أهله في محله.

هل يعني كلامك أنك تطالب بانفصال الجاليات المسلمة عن مشاكل وطنهم الأصلي؟

كلا، لأنه مهما تحسن وضع مسلمي هولندا التنظيمي وكثرت مؤسساتهم، فإنهم يظلون في خطر الهلاك إذا قطعت أواصرهم عن باقي الأمة الإسلامية، لذا فالواجب أن توثق عرى الصلة بينهم وبين المسلمين من حولهم أفراداً وجماعات، أمماً ودولاً. ولكننا نحتاج أيضاً إلى الإعداد المنظم، فهو العامل الأساسي على وجود الأقلية الإسلامية وتنميتها، لذا اهتم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بتنظيم صفوف المسلمين الأوائـل في المرحلة الأولى من البناء للجماعة الإسلامية، والتي عرفت بالمرحلة السرية في السيرة النبوية، حيث كانوا يلتقون في دار الأرقم وسعيد بن زيد بشكل ما كان يظهر للقوة الطاغية من مشركي قريش وكبرائها، يتلقون التوجيه، ويتلو عليهم رسول الله ما أنزل عليه ويعطيهم التعليمات، ويحاول أن يساعدهم في حل مشاكلهـم، وإيجاد السبل لتجنب أذى قريش الذي ما أنفك يلحق بهم آنذاك، ومكر الجاهلين الذي ما زال يحدق بهم. كان ذلك كله يتم في غفلة من قريش التي لا تعرف من سر الأمر إلا الدعوة العامة التي ينطلق بها صاحبها وبعض الذين اتبعوه، فكان المسلمون في قلتهم يشكلون جماعة واحدة متميزة لها عقيدتها وشخصيتها ضمن مجتمع آخر أوسع منه ويتميز عنه في تعاليمه وسلوكه، وكان لهذه الجماعة الإسلامية نظامها الخاص، حيث تتلقى الأوامـر من رئيسها لا من شخص آخر مهما كانت صفته أو لقبه الذي منحه إياه أفراد مجتمعه.

ما وقع فتنة الصراع السنّي_الشيعي على الجاليات المسلمة؟

لو ألقينا نظرة دقيقة على فتنة الصراع السني- الشيعي في المنطقة العربية والإسلامية، سنكتشف أن الخلاف الموجود راهناً هو الخلاف السياسي الذي لا علاقة له بالدين. فالخلط بين الجهود الدينية والأطماع السياسية يدفع بأمة الإسلام إلى حافة الهاوية، لذا يجب التفريق بين الأطماع البشرية والغاية الإلهية في جمع كلمة المسلمين، لمواجهة التحديات المعاصرة. عموماً، قضية التقريب بين المذاهب الإسلامية باتت ملحة لتحقيق أمن الأمة وسلمها الاجتماعي، في ظل تنامي ما يسمى بـ{فقهاء الفضائيات» الذين يتناولون قضايا تكرس الخلاف والتفرقة بين السنة والشيعة، بدلاً من السعي إلى توحيد خطاب إسلامي من المذهبين، بالانطلاق من حقيقة أن الإسلام بحاجة إلى كل أبنائه لمواجهة مجمل المخاطر التي تتهدد الأمة في دينها وهويتها وثرواتها.

فالتقريب قضية يجب أن تضعها الأنظمة الإسلامية الواعية نصب أعينها لإنقاذ شعوبها من مخاطر محتملة توظف بكل تأكيد لبث الفتنة وتمزيق المجتمعات الإسلامية وتفتيتها جغرافياً، وبالتالي تمكين القوى الكبرى عالمياً من الانفراد برسم الاستراتيجية الكونية من اللعب بأوراق خطيرة تستند إلى واقع التجزئة والشتات المعاش في حياة المسلمين اليومية، وذلك بسبب سيادة ثقافات خاطئة قدمت الإسلام بصور خاطئة، مستخدمةً كماً كبيراً من مدسوسات مكَّنت أعداء الإسلام من اتخاذها دليلاً أو مدخلاً للهجوم على الدين الحنيف. فعلى الجميع أن ينطلقوا من نقاط الاتفاق التي تبدأ بالشهادتين والالتزام بسنة النبي الصحيحة، وترك النقاط الخلافية في التحاور بشأنها، بما لا يؤثر أو يشوش على نقاط الاتفاق التي تضمن عدم تكفير طرف للآخر، وما يترتب على ذلك من بث خطاب يحقق التعايش السلمي بين أبناء الدين الواحد.

هل ألقت هذه الفتنة بظلالها على واقع مسلمي الغرب؟

الخلاف موجود بين المسلمين سنة أو شيعة، عرباً أو أفارقة، ولكنه ليس بحجم الخلاف في العالم الإسلامي، والسبب أننا لا نترك لأحد الفرصة للإيقاع بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم ونعقد باستمرار مؤتمرات حول التقريب بين المذاهب الإسلامية، ونؤكد للجميع على أنه كفانا نقاشاً حول الخلاف السني- الشيعي التاريخي الذي يرتبط بأحداث تاريخية مرحلية، ولنتوقف عن جعله منطلقاً إسلامياً. وهذا النداء ليس موجهاً إلى أهل السنة فحسب، وإنما إلى أهل الشيعة أيضاً. وإذا كنا ندين ونحارب الحركات والجماعات التكفيرية التفجيرية التي تكفر معتنقي أصحاب مذهب الشيعة فإننا كذلك لا يمكن أن نقبل ببعض الشيعة الذين يسبون الصحابة؛ بل ويكفرونهم، وبالتافهين الذين يصدرون الكتب الرخيصة، التي أعتبرها إحدى المؤامرات الكبرى على الإسلام والمسلمين، فمثل هؤلاء يريدون تأجيج الصراع التاريخي، ويحولون الرأي العام العربي والإسلامي عن القضايا المصيرية الأساسية لنا. من هذا المنطلق، نطالب الأمة العربية بمواجهة القوى التي تستهدف وحدة أبناء الإسلام وتدفع باتجاه بناء الأسوار والأسلاك الشائكة بين إخوان الدين الواحد، وتضعهم في اتجاه التناحر والتنابز ليسهل التهامهم جميعاً على يدي من يحرصون على استمرار التجهيل وبث المزيد من القضايا الخلافية التي تكرس الفتنة بين السنة والشيعة.

لماذا تطل الفتنة الطائفية على المشهد العربي بقوة اليوم؟

أرفض المصطلحات على شاكلة الفتنة الطائفية أو المذهبية، وأرى أن ما تتحدث عنه يأخذ بعداً سياسياً لا ديني، فالسؤال: هل ثمة دولة عربية تحكم بشرع الله كما يراه المسلمون كي يقاتلهم المسيحيون الذين يعيشون في تلك البلاد لنصرة دينهم المسيحي؟ بالطبع هذا لا يحدث. وهل ثمة دولة عربية تحكم بشرع الله كما يراه أهل السنة حتى يقاتلهم الشيعة دفاعاً عن مذهبهم؟ أيضاً لا. فالواقع يؤكد أن الخلاف سياسي بحت وهدفه البحث عن مكاسب سياسية ومناصب قيادية تأتي بعدها المكاسب الاقتصادية، فكل طرف يسعى إلى حشد أقصى قوته في الصراع، من خلال اللجوء إلى الدين، لتحويل الصراع من السياسي إلى الطائفي وكذلك يحوله إلى مذهبي سعياً إلى الانتصار حتى لو على جثة الوطن.

يرى البعض أن المؤامرة وراء ما يحدث من فتن في العالم العربي بهدف التفتيت، ما رأيك؟

دعنا نعترف في البداية بأن الغرب نفسه عانى من ظاهرة الفتن الدينية والطائفية، والقارئ للتاريخ الأوروبي يعرف ذلك جيداً. فقد كان صراع الطوائف المسيحية في أوروبا بشكل عام دموياً جداً وسقط فيه آلاف الضحايا. آنذاك، لم يختبأ الغرب وراء حجة صنيعة المؤامرة الخارجية، بل سعى وبقوة إلى دحر تلك الظواهر حتى نجح في القضاء عليها نهائياً، ولم يسمح لها بالاستمرار. وهكذا نرى اليوم أن تلك المجتمعات تخلو تماماً من الفتنة الطائفية، فيما يرقد العالم العربي على مخزن الفتنة، فيستعير منها ما يغلف به عجزه عن حل مشكلاته الداخلية، فاليوم يقول إنها مؤامرة لنشر الفتن المذهبية، وغداً مؤامرة لنشر الفتن الطائفية، وبعد غد مؤامرة لنشر الفقر والبطالة. حتى إن مصطلح المؤامرة بات هو الحل الذي يلجأ إليه المواطن العربي كلما أعيته الحيل، ولهذا فأول سبل مواجهة الفتنة التي يعيش العالم العربي في أجوائها الآن هو أن نعمل على مواجهة مشاكلنا كافة من دون النظر إلى علاقة الآخرين بها، وبعد أن نحل الجزء المتعلق بنا في تلك المشاكل نبدأ بمعالجة التدخلات الخارجية إن وجدت. أما تعليق كل مشكلة على شماعة المؤامرة فهذا يعني أننا لن نتقدم أبداً.

هل يعني كلامك استبعاد عنصر المؤامرة نهائياً؟

لم أقل ذلك، ولكن أطالب بأن نعمل على مواجهة المؤامرة إن وجدت، فأنا أحد أشد المؤيدين لنظرية المؤامرة الخارجية التي تستهدف تقويض قيم الإسلام. ولكن المؤامرات لن تنجح إلا إذا تكاسلنا نحن عن مواجهتها. في العراق مثلاً، وصلت الفتنة الطائفية والمذهبية إلى أوجها بسبب الغزو الأميركي، ما ألقى بظلاله حتى يومنا هذا على العلاقة بين السنة والشيعة، حيث أخذت الفتنة أشكالاً متعددة كانت نتيجتها إزهاق أرواح الناس من دون ذنب وتشريد الآلاف من مناطقهم بهدف التطهير العرقي، فلو عمل العراقيون على وأد الفتنة المذهبية لما وجدت المؤامرة الأميركية موضع قدم لها في بلاد الرافدين.

ماذا عن الأحداث في سورية؟

الأحداث في سورية تثير الألم بعدما تحول الأمر من تظاهرات شعبية إلى حرب أهلية تداخلت فيها الأطراف المختلفة، لتتحول إلى حرب عدوانية تدمِّر بنية البلاد التحتية والاقتصادية والخدمية، بهدف تفكيك وتقسيم وإضعاف سورية الدولة والوطن، وإخراجها من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي. فلم يعد سراً على الإطلاق أن ثمة محاولات مستمرة من بعض القوى الدولية والإقليمية لزعزعة الاستقرار في المنطقة وتشكيل مناخ يسوده التوتر والاحتقان، يشجع على إثارة القلاقل والاضطراب واللعب على أوتار الخلافات العربية والإثنية وتصعيدها وتحويلها إلى صراعات ملتهبة ومستمرة تهدد أمن المنطقة العربية بأكملها. وأعود فأقول إن العرب والمسلمين هم من يمنحون تلك الأطراف فرصة العمل على تحقيق أهدافها.

في سطور

ولد الدكتور أولاد عبد الله مرزوق في مدينة فاس المغربية عام 1964، ويحلو له دوماً أن يقول عن نفسه إنه مغربي المولد، هولندي النشأة، مصري الثقافة، وبعد بلوغه العاشرة من عمره، هاجرت أسرته بالكامل إلى هولندا، حيث درس في المدارس الهولندية وحفظ القرآن الكريم في مدينة أمستردام.

وانتقل مرزوق إلى مصر للدراسة في الأزهر الشريف، حيث التحق بالثانوية الأزهرية ثم كلية «الشريعة والقانون» في الجامعة الإسلامية العريقة، ثم حصل على الماجستير في موضوع «عزل الموظف العام في النظام الإسلامي والنظم الإدارية المعاصرة... دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون»، ثم حصل على الدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي وكان موضوع الرسالة «تغير أسعار الصرف وتطبيقاتها المعاصرة».

 ليعود بعدها مرزوق إلى هولندا رئيساً للكونغرس الإسلامي هناك، وأستاذاً في الجامعة الحرة لأمستردام، وعضو المجلس العلمي الأوروبي، وناشطاً في مجال العمل الإسلامي في أوروبا، كذلك ساهم في تأسيس عدد من الأقسام التي تهتم بدراسة وتعليم الدين الإسلامي من بينها معهد تكوين الأئمة والخطباء.