أطلقتُ سراحها

نشر في 20-05-2014
آخر تحديث 20-05-2014 | 00:01
 د. نجمة إدريس قبل أيام قمتُ بشن غارة مفاجئة على مكتبتي الخاصة، كانت نتيجتها الاستغناء عمّا يعادل خمسة كراتين متوسطة الحجم من الكتب. ولكي يستطيع أي منا أن يفعل ذلك عليه أن يكون مدججاً يومها بشيء من الحنق على (الكركبة) وضيق الرفوف، وبشيء من الرغبة في التخفف من غريزة التملّك، وبشيء من الأريحية في المنح والاستغناء.

ذلك أن العشرة الطويلة مع الكتب التي رافقتنا لسنوات من العمر تجعل من مسألة إطلاق سراحها أمراً يشبه الطلاق الزوجي بعُسره وارتباطاته العاطفية!

 يُقال في علم «الفنغ شوي» وهو علم مقتبس من الفلسفة الصينية القديمة، ان للمكان ومتعلقاته من أثاث وأشياء طاقة حيّة، وأن هذه الطاقة قد تتحول إلى طاقة سلبية محبوسة تؤثر بشكل سلبي على مشاعر الإنسان وصحته النفسية ومزاجه وعلاقته بالآخرين، وبذلك فإن «الفنغ شوي» يعني علم التناغم مع طاقة المكان والتصالح مع البيئة المكانية المحيطة بشكل إيجابي ومريح دون ضيق أو توتر.

وهذا الطرح الفلسفي لعلاقة الإنسان بالمكان ومفرداته أراه حقيقياً وصحيحاً، وربما أعاينه في نفسي على وجه الخصوص في كل ما يتعلق بتوزيع الأثاث أو الإضاءة أو المساحات الفضاء، التي تسهل إطلاق الطاقة في المكان كما تنطلق النسمات في الحقول الفسيحة.

وعليه فكثيراً ما يُنصح بضرورة التخلص من كل ما لا نحتاج إليه في البيت، ابتداءً من قطع الأثاث الزائدة عن الحاجة، مروراً بالأغراض الصغيرة المتكدسة في الأدراج وأرفف المطبخ وخزائن الملابس، وانتهاءً بغرف التخزين في سطح المنزل أو السراديب.

فكل هذا الكم من الكراكيب التي لا طائل من ورائها غالباً ما يسدّ علينا منافذ الطاقة الإيجابية دون أن نشعر، وقد يكون سبباً رئيسياً لما يشعر به أفراد الأسرة من توترات وصدامات يومية وسوء مزاج. بل غالباً ما يُنصح بأن ما لا نستخدمه لمدة عام كامل من أدوات أو ملابس أو مقتنيات، فهو زائد عن الحاجة ويُستحسن التخلص منه.

 وبالعودة إلى حديث الكتب، بتُّ أشعر أن تكديس الكتب عبر السنوات دون تمحيص للحالة التي تصل إليها المكتبة قد يؤثر على الحالة المزاجية حين نجاور هذا الكم من الكتب في المكتب أو في صالة المعيشة، ويُخيّل إلينا أن لا حيلة لنا في هذا الوضع الأبدي المفروض!

وقد يزيد الطين بله أنك بتّ لا تتذكر نصف ما قرأته من هذه الكتب المرصوصة، وأن إعادة قراءتها تحتاج إلى عمر آخر لم يعد متاحاً الآن، وأن ما تبقى من عمرك يستحق أن تكرسه لما يستجد، لا للذكريات والأحافير.

 بعد أن تأملتُ ملياً في أحوال مكتبتي توصلت إلى الآتي:    

• هناك كتب لم تُمسّ منذ ثلاثين سنة، وإن كانت من المراجع المهمة إلا أنها تعود إلى فترة الدراسة الجامعية، وأغلبها كتب دراسية محضة تخص النظريات والأسس لمادة التخصص. وأشعر الآن أن عهدها قد مضى وأن بقاءها ليس إلا لوناً من الولاء النوستالجي الذي لا داعي له.

• كتب وروايات تكفيها قراءة واحدة، وأخرى لم تعطني الحافز لاستكمال القراءة، ويبقى الاحتفاظ بهذه المجموعة مجرد عبء.

• كتب ارتبطتُ بها في سن مبكرة، وقد تركت بي أثراً ما، ثم تجاوزها الزمن أو العمر.

• كتب عبارة عن إهداءات تهلّ عليك في المناسبات والملتقيات أو قد تأتيك عبر البريد، ثم تكتشف أن بعضها على جانب من الضعف أو الخفة، أو أنه ببساطة لا يجد هوى في نفسك.

• كتب لأصدقاء تربطك بهم علاقات زمالة أو قرابة أو عمل، ولكن تحتار بها وخاصة بالإهداء المسطر بخط اليد والموسوم باسمك الكريم!

• كتب تأتيك من مؤسسات ثقافية، وقد يكون بينها ما يهمك ويستجيب لذوقك، ولكن ماذا ستفعل بما هو خارج دائرة اختصاصك وقراءاتك؟

•  كتب مكررة النُّسَخ، وهذه لن تزيدك علماً بالتأكيد.

ورغم هذه المسوغات التي أوردتها آنفاً، يبقى أن هناك كماً آخر أثيراً من الكتب انزلق أثناء الفرز، قد لا تنطبق عليه تلك المسوغات بالتأكيد. وربما يكون الدافع الحقيقي من وراء إطلاق سراحها هو التخفف من معاناة التكديس، والرغبة في التبرع لمن يستمتع بصحبة الكتب ومحاورتها بعد طول هجر ووحشة.

back to top