رجل لا يجد سوى غسل الموتى

نشر في 02-12-2013 | 00:01
آخر تحديث 02-12-2013 | 00:01
No Image Caption
تصدر خلال أيام رواية «مراتب الموتى» للكاتب اللبناني فوزي ذبيان، وقد خصَّ «الجريدة» بمقاطع منها.
«تباً لكَ. لم هذه التكشيرة وهذين الحاجبين المقطبين؟

هل أنت خائف من الموت وقد باغتك على غفلة من حمارك؟

تباً لهذا الوجه البشع... حتى الموت يأنف النظر إلى وجهك المقيت... كخّ وألف كخّ.

يا لفمك الجائح ووجنتيك المشدودتين ويا لهذه السحنة الصفراء!! لا ريب أن الموت قد ندم لأخذك ويتمنّى لفظك كأنك قيء... هه، حقاً أنا أشفق على الموت وآسف عليه... سبحان ربي الأعلى كم أنت بشع «.

 كان إبراهيم يدمدم فوق الجثة وكأنه بحضرة كائن مفعم بكل ضروب الحياة. كان يتمتم كأنه أرملة سوداء أو كأنه باب يزيزق يبلغ من العمر مدداً.

كانت الجثة ترمق إبراهيم بعين جاحظة وأخرى تروغ بين الهدبين. لم يتأتّ له غسل الجثة عن آخرها. كان يقوم بعمله بهمةٍ هي أقرب إلى التهافت وكان كل الوقت يسير داخل مغسله الفسيح بخطى مكتومة الوقع.

إنها جثة رجل في الثمانين من العمر يملك مزرعة للماشية عند أطراف القرية ... قرية إبراهيم. يقال إنه كان يفهم لغة الخراف وكان يشاطر التيوس رأيها. اشتغل لفترة من عمره في بيع التبغ الأسود في مدينة على البحر، لكنه اختار في ما بعد الاستقرار في قرية إبراهيم وجرجرة نفسه كل يوم خلف الماعز والخراف. توفي فجأة فوق ظهر حماره الذي أكمل السير إلى ساحة القرية حيث أخذ بالنهيق كأنه يؤبّن سيده العجوز.

أي من رؤوس الماشية لم ترجع إلى مزرعة الشيخ المتوفي. ربما قد التهمتها الذئاب أو أنها قد تاهت في مسارب الوادي الفسيح. بكل بساطة تبخرت رؤوس الماشية لحظة فقد سيدها الحياة.

خرج إبراهيم من سهوه على وقع ضرب على باب بيته وصوت يعجله الإسراع . كان يدحش القطن في فم الثمانيني ومؤخرته، وكان يرفع حنكه إلى فمه بقطعة قماش يشدها فوق الرأس الأشيب للعجوز.

لم يرد بنأمة حرف على هذا الذي يعجله الإسراع. اكتفى بنظرة وجهها إلى الباب الخشبي السميك وأكمل عمله بصورة آلية هي أقرب إلى  الغريزة منها إلى مهنة مكتسبة أو شيئاً من هذا القبيل.

فإبراهيم وهو كائن في الحادية والسبعين من العمر، لا يجيد القيام إلا بعمل واحد هو غسل الأموات. إنها مهنة ورثها عن جده لأبيه الذي مات منذ إن كان هو في الثامنة عشرة من العمر.

لا يعرف من أمر أبيه شيئا ولا من أمر أمه ولا يوجد في ذاكرته إلا صورة جده العجوز صاحب الحاجبين الكثيفين اللذين كانا ينعقدان بعنف إذا ما سأله إبراهيم عن أمر ذويه.

أول جثة غسلها لوحده هي جثة هذا الجد التي أعيته يومها من كثرة البلاء. يتمتم إبراهيم أن رائحة جثة جده لم تغادر أنفه البته وأن نظرة هذه الجثة وهي فوق سطح الرخام لم تفارق يوما عينه. حتى اليوم، وقد مضى على موت جده عقود، فإن إبراهيم يلمح تلصلص هذه الجثة في كل الجثث التي قد مرّت عليه.

عاد الطرق فوق الباب ثانيةُ وصوت امرأة تبسبس كي يعجل الانتهاء. أخرت بسبسة المراة إبراهيم من وعورة سباته وجعل ينصت إلى صوتها الذي يشبه فحيح أفعى أعياها حر الصحراء.

رمى القطن من يده وجرجر جسده إلى الباب الخشبي . فتح الباب عبر عارضة خشبية رفعها وأخذ يرمق المرأة عبر مئزره الأبيض وعينه الواحدة وأصبعه الطويل يلوّح به بوجهها وهو يهمس: أنا لم أنته بعد!

كان الريق يطقطق داخل حنجرته وهو يوجّه سهام غضبه إلى هذه العجوز الشمطاء. تقهقرت إلى الوراء فشخة أو فشختين وقد تكاثف إبراهيم عليها برائحة فمه المشهورة جداً بين الأحياء وبإلحاح أكثر بين الأموات.

ولَته الظهر وتوارت داخل كثافة الضباب وهي تشد ربطة منديلها تحت ثؤلل ذقنها وتتمتم بكلمات تشبه الضباب.

تولى المرأة غضب مكتوم من هذا الذي يشبه الشبح ولم تنظر إلى الخلف إلا على وقع صوت باب بيت إبراهيم يطبش بعنف ثم صوت خشب يطقطق على خشب يطقطق على قيل وقال.

رجع إبراهيم إلى الجثة وهو ينفخ في كفيه ويفركهما ببعضهما البعض.

هي برودة الخارج أو ربما برودة الجثة قد انتقلت إلى جسده الهزيل الذي صار يرتعش بعد أن غادرت الشمطاء. عاد إلى التأفف من منظر هذا البشع الممدد أمامه على الرخام والذي لم يجف بعد من بضعة قطرات ماء.

كان حنكه قد ارتخى من جديد....” يبدو أن شدي لحنكه لم يكن كما يجب”. قال إبراهيم وهو يشعل النار تحت إبريق الشاي.

ولّى الجثة الظهر وركز بصره على الخارج الذي كان يتراوح بين اللون الكحلي ولون تسلل الضباب. كان الشجر في الخارج يعارك الهواء وثمة خيوط خجلة تنذر بطلوع النهار.

ليس الموت عند إبراهيم حالة انبهار أو حتى نقطة انقطاع . فهو ينظر إلى جثثه كأنها صناديق فرجة يرى عبرها عالم الغيب ويرى أيضاً عالم الأحياء.

كان يرتشف شايه وينظر عبر النافذة وفي باله صورة جده الذي كان يحرص على معانقة الجثث العارية وتشبثه بلحم هذه الجثث وتلميع أسنانها وتسريح شعرها وإجراء أحاديث لا تنتهي مع الأموات الذين مروا أمام ناظري إبراهيم منذ أول بداية لعينيه.

فهو يتذكر، ربما كان يومذاك في السابعة أو الثامنة من العمر، أن جده كتب يوماً فوق جثة طفل صغير كلاماً كثيراً قال إن الطفل أمره بكتابتها عليه. عمل إبراهيم على شحذ ذاكرته علّه يتذكر ما الذي حصل في ما بعد، لكن ذاكرته تسربت إلى منظر آخر لجده وهو يلقّن أحد الأموات درساً في أصول الموت.

تشتت ذاكرة إبراهيم بين تأنيب جده لهذا الميت ثم غمره والتمسيد فوق جسده بحنان. فجدّ إبراهيم كان مصدر أمان لأمواته الذين كانوا يتنسمون فيه خير دليل في رحلتهم الأخيرة.

كان عند نافذة بيته الضيقة يجول بذاكرته في أروقة الجثث الكثيرة التي قد مرَت عليه، ويفكر أن الموت ليس أكثر من حاجة كفية وكفي جده من قبل لفرك أجساد الأموات.

كان منظر الجبل المقابل لبيته قد أخذ بالانقشاع وثمّة عشب يابس يتدحرج وطيور قليلة تركت نفسها تحت رحمة عاصفة آخر الليل وأول النهار.

قبل أن ينجلي المشهد أمام عيني إبراهيم المغبشتين ترامت إلى مسامعه أصوات طرطقة عجلات خشبية تتدحرج فوق الحصى والأحجار.

لم يهتم  بالمرّة بصوت طرطقة العجلات. ارتشف آخر بلعة من شايه وهو ينظر عبر النافذة إلى الرجال الذين صاروا يظهرون عبر الضباب كالأشباح. كانوا يجرجرون عربة نقل الموتى وفي بالهم أخذ الراعي الممدد فوق رخام إبراهيم.

كانت العجوز على رأس الرجال تكلمهم كأنها تكلم نفسها فقط. أما هؤلاء فعلامات الغضب والكدر قد تمددت على وجوههم الجافة.

“حسناً، قال إبراهيم، لقد انتهيت”

كان على العربة بعض الطعام. أدخل أحد الرجال هذا الطعام إلى جوَا البيت على وقع صوت إبراهيم  يأمر الرجال بضجر أن ينقلوا الجثة إلى العربة.

لا يذكر إبراهيم أنه قد كفّن الرجل بالأبيض أو لفّه بحبل القطن. لكن الجثة كانت بغابة الأناقة والتشذيب... “ها هو قد عاد صبياً” قال إبراهيم للعجوز التي لم ترد إلا ببصقة خضراء أتت بها على التراب المبلل بماء المطر.

جاء في كتب الطاعنين وألسنتهم أن جدّ إبراهيم كان إذا ما نظر إلى أحدهم محدقاً يوقن هذا الأخير أنه قاب قوسين من الموت. جاء في همس طاعني القرية وشيوخها أن جد إبراهيم كان لا يخرج من بيته إلا إذا تأخر الموت في القبض على أحدهم. كان لا يخرج إلا لماماً لحبك خيوط لا يراها إلا هو. حسب دمدمات هؤلاء الشيوخ كان لا يخرج من بيته المنعزل إلا لتأمين قوته من الموت.

عجّل الرجال نقل الراعي إلى العربة الخشبية وهم يتدارون عن وجه إبراهيم. كان يقف عند عتبة بيته منحنياً يحكّ ذقنه ويبادل العجوز الكلمات حول موضوع له علاقة  بطفلين.

“كلا لم يجدونهما بعد” ردّت عليه وهي تلعن ظلال لعابه بصوتها المخنوق في صدرها.

“هل أنت أصم! قلت لك لم يجدهما أحد بعد” قالت بعنف وهي تحثّ الرجال الإسراع في جر عربة الخشب.

كان صوت الآذان الآتي من جهة القرية يتناهى إلى مسامع إبراهيم أثناء ولوج الرجال الضباب، وقبل أن ينهي كوبه الثاني من الشاي قام بوضع فراشه على لوح الرخام وغرق في موجة نوم لا تشبه إلا الموت.

نومه يشبه نوم الجثث. إنه حالك إلى أصفر متردد كأنه ورق شجر الخريف. لا يجيد النوم ليلا ويكره بشدة ضوء النهار. يحب الليل إلى حد الشغف وتربطه علاقة وطيدة مع السماء الملبدة بالغيوم. كان الطقس الذي جدد عاصفته حول بيت إبراهيم يهدهد سريره حيث يقوم بغسل الجثث، كأنه يهدهد سرير رضيع. بالفعل، فإن إبراهيم ومنذ أول إغفاءة له لا يقدر على النوم إلا إذا وضع إصبعه في فمه وأخذ يمضغه كل الوقت. حتى إن أهل القرية لطالما تساءلوا عن سر اللون الأبيض الذي يكلل أصابع إبراهيم.

لم يسبق لأحد أن رآه نائماً.  فما خلا بعض الصبية الأشقياء لا أحد من أهل القرية والجوار يجرؤ على التسلل إلى نوم إبراهيم.

back to top