تحوّل مقلق نحو الأسوأ في بنغلادش
تحوّلت الانتخابات البرلمانية يوم الأحد الماضي في بنغلادش، بلد ذي أغلبية مسلمة يعدّ 155 مليون نسمة، إلى معضلة، فبسبب مقاطعة الائتلاف المعارض الرئيس، بدا جليّاً أن إقبال الناخبين على صناديق الاقتراع كان منخفضاً، وقد فاز أكثر من نصف النواب بالتزكية، كذلك أطلق المرشحون المستقلون تهماً بالفساد والغش في صناديق الاقتراع. كانت عمليات الانتخاب السابقة في بنغلادش تخضع لمراقبة قوية وتصديق من قبل المجتمع الدولي، أما خلال الجولة الأخيرة من الانتخابات، فلم ترسل أي دولة فرق مراقبة سوى الهند وبوتان، علماً أن الفرق التي أرسلتاها صغيرة ورمزية. نتيجة لذلك، لم ينهِ سياسيون كثر في صفوف الائتلاف الحاكم بحد ذاته حملاتهم الانتخابية لأنهم ما زالوا يتوقعون إجراء انتخابات أخرى خلال الأشهر المقبلة.تبدو هذه المعمعة الانتخابية في الظاهر نتيجة خلاف بين الحزبين اللذين سيطرا على حياة بنغلادش السياسية طوال عقود. تقود رابطة عوامي الحاكمة اليوم الشيخة حسينة واجد، ابنة الشيخ مجيب الرحمن، زعيم بنغلادش القوي الأول، أما حزب بنغلادش الوطني المعارض، فتترأسه خالدة ضياء، أرملة الرئيس السابق وبطل الحرب زيوار الرحمن، لكن هذا الخلاف أعمق مما يبدو، مع رؤيتين متضاربتين عن الأمة وقراءتين مزدوجتين لتاريخها.
يدور هذا الخلاف في جوهره حول علاقة بنغلادش المعقدة بالهند، فيعتبر معظم داعمي رابطة عوامي الهند الجارة الأكثر ثقة وقوة إقليمية أن على بنغلادش أن تتحالف معها لتعزيز التنمية والسياسيات الديمقراطية العلمانية والتصدي للأصولية. في المقابل، يظن حزب بنغلادش الوطني أن الهند دولة مهيمنة متعجرفة تسعى إلى السيطرة على بنغلادش وتحويلها إلى سوق تابعة لها.يرتبط هذا الجدل أيضاً باختلاف أكثر عمقًا، ففي قراءة رابطة عوامي، يحرم الإسلام السياسي بنغلادش من مقدار محدد من التسامح والانفتاح اللذين يشكلان ميزة أساسية في الثقافة البنغالية، إلا أن حزب بنغلادش الوطني يعتقد أن نخبة بنغالية حالمة تحاول محو هوية بنغلادش الدينية بصفتها مجتمعاً مسلماً بأغلبيته، ولكن لا يرى كثيرون من شعب بنغلادش أو حتى معظمهم أن ثمة تضارباً بين أوجه إرثهم البنغالية والإسلامية المتداخلة، ويظن كثيرون أن استغلال هذه الهوية ما هو إلا سياسات سلبية ساخرة ومجرد وسيلة إلهاء عن المشاكل الحقيقية المتفشية، مثل مشاكل الحكم والفساد والتراجع البيئي التي تشكّل مخاطر تهدد حقّاً وجود الأمة.علاوة على ذلك، تثقل أعباء الماضي ضمير بنغلادش، فقد وُلد هذا البلد من رحم المأساة، فوفق الأغلبية المسلمة، تحوّلت بنغلادش إلى جناح جمهورية باكستان الإسلامية الشرقي عام 1947، منفصلةً عن نظيرتها الغربية بسبب الجغرافية والثقافة، لكن انتخاب السياسي الباكستاني الشرقي القوي مجيب الرحمن كرئيس وزراء باكستان عام 1970 أدى إلى انقلاب نفذه الجيش الباكستاني. نتيجة لذلك، تحوّلت رابطة عوامي الاشتراكية العلمانية التابعة لمجيب إلى حركة تحرير وطنية، فخاضت حرباً ضد الجيش وداعميه المحليين، بمن فيهم الباكستانيون الشرقيون غير البنغاليين (البهاريين) والإسلاميون الذين اعتبروا النضال في سبيل الاستقلال محاولة لتفكيك باكستان بتحريض من الهند.تُظهر الوثائق بوضوح الفظائع التي ارتكبها البهاريون والإسلاميون ضد الثوار وداعميهم والأقلية الهندوسية، كذلك مشاركة داعمي رابطة عوامي في فظائع ضد البهاريين. في عام 1971، نجحت بنغلادش أخيراً في تحقيق استقلالها وتخلصت من الحكم الباكستاني الغربي شبه الاستعماري بعد تدخل الهند عقب ارتكاب الجيش الباكستاني فظائع لا توصف في محاولة لقمع الانتفاضة التي أثارها هو بنفسه. غير أن محاولات إطلاق عملية انتقال قضائية بعد حرب الاستقلال أخفقت، وظلت بعض الفصائل داخل رابطة عوامي وخارجها تسعى إلى الثأر من الإسلاميين بسبب جرائم الحرب التي اقترفوها.عام 2009، حققت رابطة عوامي انتصاراً انتخابيّاً حاسماً، فقد سعى الناخبون في بنغلادش على الأرجح إلى تمكين زعيمتها الشيخة حسينة، إلا أن أعضاء كثيرين في الرابطة اعتبروا فوزها تفويضاً شعبيّاً لتحقيق رؤيتهم عن بنغلادش علمانية إلى أبعد الحدود بحظر الإسلاميين ومعاقبتهم. لكن حكومة حسينة حققت نجاحات كبيرة في مجالات كثيرة، فرغم البيئة الاقتصادية الدولية المتباطئة، سجّلت بنغلادش معدل نمو صحيّاً، وأدى تحسّن أوضاع كثيرين المعيشية إلى توسّع ملحوظ في الطبقة الوسطى. كذلك برهنت حسينة نفسها أنها ليست ابنة أبيها فحسب، بل أيضاً قائدة قوية بكل معنى الكلمة، لكن الكثير من النجاح الذي حققته بات مهدداً نتيجة أجندة عقائدية حزبية غير ليبرالية استهدفت الخصوم السياسيين، قمعت النشاط السياسي، وأخضعت القضاء.لا بد من أن تذكّر الانتخابات الصورية الأخيرة حسينة ورابطة عوامي أن التفويض الانتخابي ليس شيكاً على بياض، وأن الأولوية بالنسبة إلى الشعب ليست العقيدة والماضي، بل المستقبل. من الضروري القيام بعملية مصارحة ومصالحة حقيقية في بنغلادش، ووحده زعيم قوي مثل حسينة قادر على ذلك، ولا شك أن هذه الخطوة ستحقق العدالة أكثر من شهادات شاهد وحيد متناقلة تؤدي إلى إصدار حكم الإعدام بحق مَن يُعتبرون مجرمين ارتكبوا جرائم حرب، وعلى مجتمع عبر الأطلسي والهند أن يدعوَا حسينة إلى الإقرار برسالة العملية الانتخابية التي أخفقت والسعي إلى تسوية تعيد بنغلادش إلى درب الديمقراطية الليبرالية النامية الحقيقية.* Hassan Mneimneh