المُعَدِّيَةُ في اللغة العربية هي «الزورق الصغير أو المَرْكب الذي يُعْبَر عليه من شاطئ إلى شاطئ»، وهي الاسم الذي اختاره عطية أمين عنواناً لتجربته الإخراجية الأولى، بعد دراسته فن التحريك في «المعهد العالي للسينما»، وإبداعه في مجال المؤثرات والخدع البصرية، فالعنوان الذي كتبه محمد رفعت صاحب أفلام: «كشف حساب»، «جوبا»، «آخر الدنيا»، «قلب الدنيا» و»أنت عمري» هو «فارس أحلام» في إشارة إلى قصة الحب التي تجمع بين الشاب «فارس» والفتاة «أحلام»، لكن عطية أمين كان أكثر حصافة عندما استقر على عنوان «المُعَدِّيَةُ»، كونها الجسر الذي يربط بين عالمين متناقضين؛ أولهما مُهمش يعاني أهله الفاقة والبطالة في جزيرة معزولة، والثاني متحضر سمته الصخب والضجيج والزحام، لكنه يمثل الأمل لشباب الجزيرة في الخروج من النفق المظلم، وتحقيق الأحلام المجهضة!
على إيقاع موسيقى ناعمة (خالد الكمار وأحمد مصطفى) راحت الفتاة «أحلام» ( دُرة) تتهادى في الحواري الضيقة التي تنطق بالبؤس والعوز في طريقها إلى «المُعَدِّيَةُ»، التي تقلها إلى عملها في محل الكوافير، وعلى الشاطئ تلتقي فتاها «فارس» (هاني عادل) العائد من «نوبتجيته» الليلية كحارس أمن، وعلى نفس الوتيرة الهادئة تستعرض الكاميرا (رؤوف عبد العزيز) واقع الجزيرة، التي يقتلها الفقر، وأهلها الذين يقدمهم الفيلم بوصفهم ضحايا هزمتهم أحلامهم؛ فالبطلة تُدعى «أحلام» لكنها عاجزة عن تحقيق حلم الارتباط الشرعي بفتاها، وشقيقها «حسين» (أحمد صفوت) عاد من غربة، دامت ثلاث سنوات، مهزوماً يجرّ أذيال الخيبة، يحمل مشاعر فاترة حيال زوجته «نادية» (مي سليم) وابنته «ضحى» التي تخشاه، ولا تشعر أنه أبوها، وقسوته على شقيقته التي يرفض زواجها من صديقه «فارس»، بحجة فقره وعجزه عن تكوين نفسه، وكأنه يرد الصفعة، حسبما واجهته شقيقته، التي تلقاها يوماً من أهل فتاته «إيمان»( إنجي المقدم) الذين رفضوه، وأرغموها على الزواج من غيره، وانتهى الأمر بطلاقها، بينما قادت الظروف القاسية الصديق الثالث «منصور» (محمد علي) إلى الهاوية، بعدما تحول إلى الاتجار بالممنوعات والنساء وسرقة السيارات، فيما تقف الأم (لمياء الأمير) مغلوبة على أمرها وابنها «فارس» يقرر تركها، وشقيقه الأصغر، ليتلظى بنار الغربة! صورة مأساوية رأينا من خلالها، وعبر 98 دقيقة، ضحايا مجتمع أغلقت أبواب الأمل في وجوههم، وواقع يبعث على الشفقة والرثاء، نجح المخرج عطية أمين في تجسيدها على الشاشة بإيقاع دقيق ومتماسك (مونتاج داليا الناصر)، باستثناء مشاهد ما قبل النهاية، واجتهاد واضح في توظيف العناصر الفنية، كالصورة (الكاميرا تقترب من البطلة فتكشف أوجاعها من دون كلمة واحدة والأغصان اليابسة في الخلفية تعكس قسوة الواقع وجفافه) والإضاءة (القمر نصف المُضيء يهبط من السماء ويُعري حال الشخصيات بينما الضوء الخافت يعكس بؤس الحارة)، والأغنيات تُعلق على المواقف الدرامية ( شادية تغني «اتعودت عليك» وفايزة أحمد ترنم «ياما أنت واحشني» بينما تشدو أم كلثوم «كان لك معايا أجمل حكاية» ويبتهل النقشبندي «ماشي بنور الله»)، وعلى النقيض جاءت أغنية «بتوحشني»، التي كتبها محمد سرحان ولحنها إيهاب عبد الواحد وغناها حسام حبيب، خارج السياق، ولا مبرر لوجودها! حالف التوفيق المخرج في الاستعانة بمهندس ديكور نابه (حمدي عبد الرحيم) وستايلست موهوبة (مروة عبد السميع)، إذ أضافا مصداقية وواقعية على الأحداث، واختار توليفة غير تقليدية من الممثلين (درة مع هاني عادل، أحمد صفوت، مي سليم ومحمد علي) نجحت في التعبير عن أزمة جيل عجز عن مجاراة الواقع، والعبور إلى الشاطئ الآخر، لكن لم يحالفه التوفيق في اختيار عزت أبو عوف في دور الصعيدي؛ إذ لم يتقن اللهجة، وبدا مستعاراً شكلاً، ومضموناً، فيما يتحمل الكاتب محمد رفعت مسؤولية الزج غير المبرر بشخصية المسيحية «إيفون» (سلوى محمد علي) وطقوس الزواج في الكنيسة، كذلك يتحمل مسؤولية الحوار الذي يتناقض والثقافة المحدودة، والخلفية البسيطة، للشخصيات، لكنه يستحق الثناء لإيجازه في إيصال رسائل غير مباشرة عن تسريح العمال نتيجة الكساد الاقتصادي، وأصحاب رأس المال غلاظ القلوب، والخوف الذي يدفع صاحبه إلى اللجوء إلى القوة ليخفي ضعفه، والمجتمع المتناقض الذي يرفض الحب في العلن، ويشجع من يرتكب الإثم في الخفاء! مثلما جاء فيلم «المُعَدِّيَةُ» مُغايراً لتوقعي، وانطباعي السلبي الذي تكوّن، نتيجة استياء نقاد من الفيلم، عقب عرضه في الدورة العاشرة لمهرجان دبي السينمائي، جاءت النهاية بمثابة مفاجأة غير متوقعة تكشف اجتهاداً في التناول، و»طزاجة» في توظيف العناصر الفنية، وهو ما يُحسب للمخرج، في تجربته الأولى، وللشركة المنتجة التي اختارت الاحترام شعاراً لباكورة إنتاجها .
توابل
{المُعَدِّيَةُ} !
28-03-2014