وقفاتٌ ثلاث

نشر في 14-01-2014
آخر تحديث 14-01-2014 | 00:01
 د. نجمة إدريس وقفة 1

كما للأمكنة أرواح، كذلك للفصول أرواح. ويخيل للإنسان وهو يجوب الأمكنة عبر السفر أو يختبر دوران الفصول أن ثمة رابطا غامضا ومرهفا بين روح المكان وأرواح الفصول المتعاقبة، ولغة وبوحا يتماوجان عبر الأثير.

ذات المكان الذي يكاد يزهق روحك إبان فصل الصيف بصهده ورطوبته وملله، تراه في مطالع الشتاء حنوناً يفتن القلب برقته وبديع نباتاته المرهفة التي تستقبلك على كتف الطريق، حتى تودّ لو تسند خدك إلى برودة الأرض زاهداً فيما عداها.

هناك روحانية فاتنة تنتشر في الفضاء هذه الأيام، وتعبق في ذات المكان الذي يتحول إلى معشوق آسر لا تستبدل به جهات الأرض الأربع! تستشعر بعمق تلك الروحانية وهي تسري في الوجوه والأجساد، فتسترخي الملامح، ويرقّ الكلام، وتنشط الأعضاء، وتمتلئ القلوب بما يشبه الرضى والاكتفاء، فتركن مطمئنة إلى تلك السكينة التي ليس كمثلها شيء.

إنه الأوان الذي تتسع فيه الرؤى وتضيق فيه العبارات.

وقفة 2

أعتقد أن متلازمة فقر المخيلة والذاكرة سوف تكون من ضمن أمراض العصر الآني. ذلك أن ملكة تخيل واسترجاع اللحظات الخاصة والحميمة أصبحت من مهمات الهواتف والأجهزة الذكية بأنواعها، وليست ملكة بشرية تصنعها الذاكرة والشبكات العصبية وما يتعلق بهما من مشاعر وأحاسيس!

ما أكثر اللحظات النادرة والثمينة جداً التي لا نعيشها في أوانها، لأننا مشغولون بالتقاطها بهواتفنا النقالة ومنهمكون بتعديل «فوكس» الكاميرا أو زوايا اللقطة. في الوقت الذي ننسى أنها مجرد لحظة خاطفة، ولن تتكرر، وإننا ببساطة نضيع زمنها من أجل أن تكون لنا نسخة منها، وهي بالضرورة نسخة ليست أصيلة!

لحظات لا تقدّر بثمن ولا تُستدرَك، كلحظة استلام شهادة تخرّج، أو وضع دبلة خطوبة، أو حركة نادرة في مباراة أو عرض مسرحي، أو إطفاء شمعة في حفل ميلاد طفل، أو قبلة على خدّ، أو تسليم جائزة تكريمية.... أو كثير غيرها من مجريات الحياة النادرة التي لا تحدث غير مرة واحدة فقط. أليس من الأوجب أن نرى هذه الأحداث بالعين ونعيشها باللحظة، وندع للمخيلة والذاكرة أن تختزنها كيفما تشاء، وبزاوية الرؤية التي تريد؟

كثير من الذكريات تبقى أكثر حميمية وإنسانية وأخصب خيالاً مقارنة بلقطات الكاميرا، التي – مهما بلغت من الفن والحرفية - تبقى عملاً من أعمال الآلة. فعش لحظتك ودع غيرك يسجلها إن لم يكن من ذلك بدّ.

وقفة 3

بمناسبة اللغط الذي يدور حول منع ندوة عن الشاعر المتصوّف «جلال الدين الرومي»، نسوق هذه النماذج من أقواله وتأملاته، علّها تعبّئ الفراغ:

• لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى داخلك؟

• لعل الأشياء البسيطة هي أكثر الأشياء تميزاً، ولكن ليست كل عين ترى!

• ليس هناك أصلح من عمل دون غاية.

• استمع إلى صوت الناي كيف يبثّ آلام الحنين ويقول: مذ قُطعتُ من الغاب وأنا أحنّ إلى أصلي.

• هكذا أودّ أن أموت في العشق الذي أكنه لك، كقطع سحب تذوب في ضوء الشمس.

• كل الأشياء تصبح أوضح حين تُفسّر، غير أن هذا العشق يكون أوضح حين لا يكون له تفسير.

• انظر إلى حالك واخرج منها وارتحل من حبس عالم الصورة إلى مروج عالم المعاني. إنك طائر العالم القدسي، نديم المجلس الأسنى، فمن الحيف أن تظل في هذا المقام.

• قد ينتهي طريقٌ عند بيت ما، ولكن ليس طريق العشق.

• إن تطلب اللؤلؤ فعليك بالغوص في عمق البحر، فما على الشاطئ غير الزبد.

• ما لهذا النهار بشمسين في السماء؟ ليس كمثله نهار.

• لا كاسات خمرٍ هنا، ولكنْ خمر تدور، لا دخان، بل لهب. اسمعوا الأصوات تنبثق بالنغم.

back to top