إثر رحلة الهند، وبعد مرور شهور كثيرة عليها، بدأت أشعر بالوحشة بين حنايا وطني الكويت، إذ اشتقت إلى تلك الراحة التي انتابتني حين صاحبت الموجوعين والمتألمين والمكلومين والملفوظين من أوطانهم، فلطالما وجدت ذاتي بين هذه القلوب المكسورة، أجبر جراحها فتجبر روحي. كانت الوجهة هذه المرة إلى لبنان مع حملة «ليان» الإنسانية، وكنت أدرك تماماً أنني أشد حاجة إلى هذه الرحلة ممن سأذهب معهم، فجهزت حقائبي لأسافر مع أناس ألتقيهم أول مرة، لنقتسم معاً الخبز والقهوة والإنسانية.

Ad

كان رفاقي في تلك الرحلة إلى البقاع اللبناني، التي استغرقت ثلاثة أيام، بعض مؤسسي حملة «ليان»، الروائية الكويتية بثينة العيسى، ود. صبرا الفهد، والأستاذ الرحالة الرائع عبدالكريم الشطي. أيام ثلاثة مرت مصحوبة بمشاعر شتى، زرنا خلالها مخيمات اللاجئين، وسكنّا في دار «ليان» التي تحتضن 6 أيتام سوريين، لم يتخط عمر كل منهم 9 سنوات... رحلة عنت لي الكثير، ربما أكثر مما عنته لأولئك البائسين الذين زرناهم.

حكاية «ليان»

استوحى فريق العمل اسم «ليان» لحملة إغاثة لاجئي سورية على الحدود اللبنانية عند وادي خالد، بعد وفاة رضيعة لا يتجاوز عمرها سبعة أشهر بعد تدهور حالتها الصحية - لمعاناتها مرضا قلبيا- في سورية ابتداءً، ورغم قيام والديها بكل ما يمكنهما لإنقاذ فلذة كبدهما من موتٍ محقق، اجتازوا المعابر وصولاً إلى بر الأمان في الحدود اللبنانية في وادي خالد، طلبوا المعونة، اتصلت المستشفيات بمتبرعين من الخليج، ولكن حينما وصلوا كانت «ليان» قد لفظت أنفاسها الأخيرة في ظل عدم وجود عناية طبية وإغاثية للاجئين. فـ»ليان» لم تمت، بل أحيت حملة خليجية لتقديم العون والمساعدة للاجئين السوريين في شمال لبنان.

«ليان» حملة شبابية خليجية متنوعة ومستقلة، تهدف إلى مساعدة اللاجئين السوريين في شمال لبنان، واحتوائهم، وإسعادهم، وتقديم الدعم الإنساني عن طريق جمع التبرعات من أجل الإغاثة المباشرة والسكنية والطبية. ويتم ذلك عن طريق زيارة الفريق بشكل مستمر للعائلات للتعرف على أحوالهم وإيصال التبرعات لهم.

«ليان» حملة مستقلة، لا تتبع أي جهة أو منظمة، فهي حملة إنسانية بحتة هدفها تقديم المساعدات الإنسانية. وتتعاون مع بعض الجهات الرسمية لكنها لا تتبعها.

ولذلك حرصت على أن أرافقهم لعلمي أنها حملة لا تحمل أي أجندة، وليست تابعة لأي حراك سياسي أو ديني، انها حملة انسانية من أشخاص مثلي ومثلك.

الطريق الموحش

كانت الرحلة في يوم 3 ابريل، وصلنا إلى بيروت نحو الساعة 8.30 مساء، بدا المطار حزينا، وبيروت ليست بيروت التي أعرفها، إذ كنت أزورها سنويا حتى 2009، وعدت اليوم في 2014 لأرى حزنا يخيم على الوجوه ومطارا مهجورا إن قارنته بماض قريب قبيل سنوات قليلة فقط. اشترينا خطوطا لبنانية خلوية، ونحن في طريقنا الى البقاع بدا الطريق موحشا. تناولنا المناقيش في أحد المطاعم على الطريق وشعرت منذ الوهلة الأولى أن الحواجز غير موجودة بين رفقائي في السفر الذين التقيتهم اليوم فقط.

وصلنا الى البقاع وتحديدا منطقة مجدل العنجر حيث يوجد بيت «ليان» وهو بيت من ثلاثة طوابق، كان لي سرير في غرفة مع صبرا وبثينة. خلدنا إلى النوم بعد منتصف الليل بعد يوم طويل من السفر، وكان يقطن هذا المنزل 6 أيتام سوريين معهم مشرفة أو، بالأصح، أم بديلة بقلبها الكبير دانية، لي في الحديث عنها كلام مفصل، تشعر منذ الوهلة الاولى بهالة من السلام حول وجهها الباسم.

استيقظنا فجرا على صوت الاطفال، صلينا الفجر وبدأت رحلة التعارف عليهم، والافطار معهم، ثم اتجهنا إلى المخيمات وهي من أفضل الاشياء التي أحببتها في هذه الرحلة، إذ كان لزيارتها أثر كبير في نفسي.

زيارة المخيمات

انطلقنا صباح الجمعة 4-4-2014 إلى أحدث مخيم «بر الياس» الذي أنشأته «ليان»، تسكنه أسر سورية نزحت مؤخرا، بسبب القصف والموت المتناثر حولها والجوع الذي أهلك كثيرين منهم وخصوصا النازحين من مخيم اليرموك.

في كل خيمة كانت هناك حكاية. وفي كل حكاية هناك آلام كثيرة وحنين للشام، حيث الخيرات والكرم والمشمش وركوة القهوة... على طعم البن استمعت الى الحكايات.

آمنة، سيدة نحيلة تبلغ من العمر 42 عاما أصولها من مدينة الحولة من فلسطين ولكنها تشعر بأنها أكبر بكثير من هذا العمر، نزحت منذ أيام من مخيم اليرموك، حكت لنا عن التجويع الذي تعرضوا له. لديها ثلاثة ابناء اقتاتوا على الحشيش واعترفت بأنها التهمت القطط والكلاب حين فتك بها الجوع.

كانت آمنة تلك السيدة التي أكسبتها اشعة الشمس سمرة تمتلك ابتسامة فيها طيبة الدنيا، قالت لي ان وزنها كان 100 كيلو اما اليوم فهي لا تتعدى الـ60، فداعبتها قائلة ان هذا الحصار جعل منك سيدة رشيقة، شهدت ضحكة لن أنساها. آمنة واحدة من الوجوه التي لن أنسى ابتسامتها أبدا، كنت أرى فيها ملامح سيدة معجونة بالطيبة والخوف على أبنائها الذين تعرض احدهم لمشكلة بالمفصل وآخر كسرت رجله وآخر تقطعت أوتاره، تشتاق هي وأبناؤها لزوجها الذي ظل في مخيم اليرموك، هذا الاب الذي حين ذكرته دخل أمجد ابنها الأصغر في نوبة بكاء آلمتنا جميعا.

تنقلنا بين الخيم، فاستمعنا إلى قصص تقشعر لها الأبدان، قصص تعذيب وقتل عشوائي ورصاصات أحيانا لم تكن تختار ضحيتها وفي أحيان أخرى كانت تختار، حكايات الشوق للشام كانت طاغية لدى أغلب اللاجئين، والكثير منهم تمنوا أن نلتقي مرة أخرى في الشام الجميلة، نتناول الكبة وكاسة الشاي تحت ظل أشجارها.

ميساء... غصة وغضب!

ميساء نصوح الزين، أم لطفل يبلغ من العمر 11 عاما، لديه مشكلة صحية كبيرة، إذ لا يمتلك مثانة، وتكمن المعضلة أنه يحتاج إلى عملية تكلفتها 30 ألف دولار أميركي. في قلب ميساء غصة وغضب تحلم باللجوء السياسي إلى أي بلد يرعى حالة ابنها الصحية فهي لا تمتلك سوى الرغيف في خيمة باتت خالية من كل شيء، من سيساعد ابنها ليتخطى هذا العيب الخلقي الذي قد يعوق نموه بشكل طبيعي كرجل؟

ليكن الله في عونهم

سمعت الكثير من الحكايات. لكل خيمة خصوصيتها، ولكن الطابع الغالب على مشاكلهم غلاء الاسعار في لبنان وعدم توافر فرص عمل لهم كلاجئين سوريين، إضافة إلى عدم وجود رعاية صحية، وإن توافرت الرعاية المجانية فهناك مشكلة المواصلات التي تحول دون وصولهم إلى تلك المشافي التي تقدم لهم هذه الرعاية. تخيل أن العلاج ممكن ولكنك لا تمتلك تكلفة وسيلة النقل. بائس هو الوضع، صعبة هي حياتهم اليومية.

لاحظت أن أغلب الأسر هي لنساء مع أولادهن دون أزواجهن، إما لأنهم اعتقلوا في سورية أو قتلوا او مازالوا محاصرين هناك، وبعضهم تعرضوا لإصابات بليغة لم تمكنهم من النزوح إلى أي دولة مجاورة.

مجدل عنجر

كان لهذه المنطقة التي مكثنا بها ثلاثة أيام طبيعية خاصة، جو قروي جميل، طبيعة عذرية خلابة ومناظر ساحرة رغم كل شيء. كلمة مجدل هي اسم آرامي يعني «المرقب» و»المكان العالي» أو «القصر المشرف». أما «عنجر» فتقسم إلى «عين» و»جر» وتعني «العين الجارية» وتقع على سفح سلسلة جبال لبنان الشرقية. وهي إحدى بلدات البقاع الأوسط على الطريق الدولية التي تربط بين بيروت ودمشق.

تقع عند نقطة الحدود اللبنانية - السورية، لذا فقد كانت مقصدا للكثير من اللاجئين السوريين، تتزين بكروم العنب واشجار الدراق، تشعر أن خيرات الأرض متناثرة فيها، فقط تحتاج إلى من يلتقطها.

مستقبل الأطفال

ما مستقبل الأطفال اللاجئين؟ هذا هو السؤال الأصعب، في ظل التشرد والفقر، وقلة الرعاية الصحية، وصعوبة النظافة والتعقيم في الخيام. ترى شحوبا على وجوه الأطفال رغم جمالها وبراءتها. هناك من دخل المدارس واصبح من المتفوقين رغم اختلاف المناهج وصعوبتها، وهناك من يسكن الخيام مع اسرته لا يستطيع سوى اللعب مع أقرانه غير عابئ ان فاته الدرس، في حين لا تستطيع أسرته الاهتمام بتعليمه لأن لديها هموما أكبر، كتوفير لقمة تسد جوعهم أو دواء لتسكين آلامهم، وحتى حليب الاطفال والحفاضات باتا من أمنياتهم.

حسب الاحصائيات فإن هناك لاجئا سوريا في كل دقيقة ينزح الى لبنان، وهناك نحو المليون لاجئ سوري في لبنان فقط. أدى هذا النزوح الى ازدياد العبء الاقتصادي على لبنان مما ولد نوعاً من المشاحنات بين الشعبين، وهو ما يشكوه الطرفان، مما جعل الوضع يبدو شائكا نوعا ما.

ويواجه الطالب السوري تحديا دراسيا مهما، وهو صعوبة المنهج اللبناني الذي يعتمد على اللغة الانكليزية، التي هي مهملة أصلا في المنهج السوري حسب ما نقل لي أهالي الطلبة، ومع ذلك حقق الطالب السوري هناك تفوقا ملحوظا في كثير من المدارس، وهو مؤشر خير في ظل أزمة يبدو أنها ستطول.