انتهيتُ هذه الأيام من إكمال ترجمتي لنصين شعريين طويلين من آداب الهند القديمة. عنوان الأول «رسول السحب» للشاعر «كاليداسا»، والثاني «سافِتْري» مُنتَخب من الملحمة الشهيرة «مهابْهَراتا». لي معاودةٌ للنصين، حينَ تحينُ لحظةُ التنهّداتِ الشعرية الخفية في داخلي، من أجلِ بعثِ الروحِ في لغة الترجمة، بعدها أبعثهما للناشر. ولكن هل هذا ممكن؟ أعني بعثَ الروح الشعري في لغةِ الترجمة. أنا أشك في ذلك، ولكن المحاولةَ ضرورية، علَّ إيحاءً من النص البعيد، في لغته الأصل، يهبط على لغتي، فيتدفقُ الدمُ من جديد.

Ad

الترجماتُ الانكليزية للنصين أسرتني منذ الوهلة الأولى، خاصةً تلك التي صيغتْ بشكل الشعر الانكليزي. حيث الوزنُ والقافيةُ يحاولان مُحاكاةَ الأصل. أُسرتُ، مع معرفتي بأن ما أسرني ظاهرٌ في شكل الشعر الانكليزي ومعناه. ولكن هناك شيئاً آخرَ كامناً غيرَ ظاهر، يفِدُ من الأصل البعيد، من اللغة السنسكريتية التي لا أحسنها. القراءةُ الجيدة للنص المترجم تشبه الكتابة الجيدة له. هنا يتطابق القارئُ والمترجم. كلاهما يملكان حاسة لازمنية، تملك أن تعيش، ربما بصورة خاطفة، زمناً مندثراً.

حين أدخلُ المتحفَ وأتأمل حجارة من سومر، أعرف في الظاهر أنها مجرد حجارة. إنها قد لا تختلف عن الحجارة التي أراها في الشارع، أو في حديقة البيت. ولكن هناك بوحاً كامناً غير ظاهر في هذه الحجارة وراء الزجاج. بوح لازمني، ينتسب إلى زمني الداخلي، يمنح الحجارة حياةً، ويجعلها تتحدث. في عام 2006 كتبت قصيدة بعنوان «في المتحف»، أملاها عليَّ هذا الخاطر ذاته، عن:

«قارورة فخّار: بحواف سوداء، مثلّمة...

حدّقتُ طويلاً فيما يبدو لي حلماً،

في هيئةِ بيت زجاجٍ يرعى قارورة فخّار بحواف سوداء...».

قارورةُ فخّار في المتحف، لكنها في داخلي حلمٌ في هيئةِ قارورةِ فخّار. هذا يحدث لي مع النصِّ الشعري القديم المُترجَم عادة. مترجِماً كنتُ لهذا النص القديم، أو قارئاً لترجمته. اللازمني في داخلنا يَعبرُ الموانعَ الزمنية (اللغة المشروطة بالزمان والمكان) ويُنشد مع المُنشدين داخلَ الأسطورة.

الغربيُّ الذي يرقص على لحنِ وإيقاعِ القوّالةِ «نُصرتْ فاتح علي خان»، يعبر الزمانَ والمكانَ الأرضيين، ويستسلمُ للازمني في داخله. الموسيقى أيسرُ الفنون في تحقيق تجاوزٍ كهذا. وليس صدفةً أني وقَعتُ على النصين الهندييْن القديميْنِ عَبر الموسيقى أولَ الأمر.

سمعتُ عدداً من خُماسيات قصيدة «رسول السحب» كأغنياتٍ هندية كلاسيكية، والقصيدةُ كثيراً ما صيغت في ألحان قد يرجع بعضُها إلى زمنِ شاعرِها في القرن الرابع الميلادي. كما سمعتُها في عمل موسيقي غربي للإنكليزي «كوستاف هولْست» (1874-1934). أما «سافِتْري» فقد وضعها هولست ذاته في أوبرا، لمْ تُعرض كثيراً. وكان هذا الموسيقي، في مرحلة من حياته، غارقاً في تأثره بالموروث الهندي دينياً، وفكرياً، وشعرياً وموسيقياً، حتى أطلق النقادُ على مرحلته هذه بالمرحلة الهندية.

 قلتُ إني جئتُ إلى هذين العملين الشعرييْن عن طريق الموسيقى، وبهاجسِ العودةِ إليهما، من أجلِ بعثِ الروح في لغةِ الترجمة، احتجتُ أن أعودَ منهما إلى الموسيقى من جديد. وكان «يوتيوب «ملاذي. هناك طلبت Vocal Raga، أو فن الراك يؤدى بالصوت البشري، وصرت أبحث عن مُغنٍ، والمغنون كثُر، لم أسمعه من قبل. فوقعت على السيدة Kishori Amonkar، وصرت أتابعُ لأيامٍ العديدَ من تسجيلاتها، التي تبدو كلمةُ «رائعة» قليلةً بحقها. فن الراك يشبه فن المقام لدينا، ولكن الأخير نفَسُه قصير، كالشاعر العربي، قد يتجاوز الدقائقَ العشر إن كثّر. أما الأول فنَفَسُهُ طويل كالحكيم الهندي، قد يتجاوز الساعة.

أما إذا تخلى عن الحركة البطيئة الطويلة التي تُسمى آلاب، فإن الجزء التالي، ويُسمى جور، يبدأ مع أولى عناصر الإيقاع، التي يتشكل منها لحنُ الأغنية، التي يُختم بها العمل.