هجرة العقول العربية إلى الدول المتقدمة وأهمها الولايات المتحدة، ظاهرة مؤرقة للمجتمعات العربية: قادة وحكومات وكتابا ومثقفين، منذ أواخر الخمسينيات والعديد من المؤتمرات والبحوث والدراسات تتناول هذه الظاهرة وتكشف انعكاساتها السلبية على التنمية العربية، كونها تشكل نزيفاً مستمراً لأغلى موارد العرب وثرواتهم (الرأسمال البشري المتعلم) أعظم ثروات الأمم.
تخيل كم تتكبد الدول العربية في الإنفاق على تعليم أبنائها وفي ابتعاثهم إلى الجامعات العالمية في تخصصات هي بأمسّ الحاجة إليها، ثم لا تجني ثمرة استثماراتها، لأن نسبة من هؤلاء لا تعود، ونسبة أخرى تترك أوطانها لسبب أو لآخر، فتخسر الأوطان خسارة مزدوجة: خسارة إنفاق على تعليم يجني ثمرته آخرون، وخسارة حرمان الأوطان من جهود أبنائها. لقد استأثرت ظاهرة هجرة العقول باهتمام الدول النامية والمتقدمة على السواء، وكانت مصدر قلق لما ينجم عنها من خسارة العنصر البشري العالي المستوى، كما شكلت موضوعاً للجدل والنقاش على مستوى منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية بهجرة الكفاءات من البلدان النامية إلى المتقدمة. لقد أدركت الدول المتقدمة وشركاتها العملاقة عابرة القارات، وجامعاتها العريقة– منذ وقت مبكر– أهمية استقطاب الكفاءات والعقول، واليوم هناك تنافس دولي من أجل اجتذابها وتوفير المناخ الملائم لعطائها، ولم تصبح الولايات المتحدة، القطب المهيمن عالمياً، إلا لأنها تمثل "القطب الجاذب الأعظم" لأفضل العقول وأذكاها من مختلف دول العالم، للإفادة منها وتوظيف طاقاتها عبر تأمين "البيئة العلمية الملائمة" و"المناخ الاجتماعي" الحاضن والمحفز للإبداع واستثمار الطاقات، لتصبح كما قال فريدمان "أميركا أكبر ماكينة اختراعات في التاريخ، حيث يستطيع المرء استثمار عطالته". التحديات أمام الدول العربية عديدة، أبرزها تحدي استعادة أبنائها أصحاب العقول المفكرة والكفاءات العالية، بتهيئة المناخات الجاذبة لهم، وهي معركة المستقبل، معركة كسب هذه العقول لتنمية أوطانها، فالعقل المبدع أعظم نعم الله تعالى على الإنسان والأوطان، والأسباب والدوافع وراء هجرة الكفاءات العربية من أوطانها معروفة ومكررة. وكل الدراسات والمؤتمرات على امتداد 50 عاماً قدمت حلولاً وتوصيات لم تترجم في إجراءات عملية جاذبة للكفاءات أو حادة لهجرتها؛ لذلك تأتي مقالة سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم "الهجرة المعاكسة للعقول" في "الشرق الأوسط" 9/6/2014 لتكتسب "أهمية استثنائية" في هذا المجال، كونها تقدم "نموذجاً عملياً" ناجحاً لإرهاصات كسر الحلقة، وتغيير الاتجاه في هجرة العقول. تكشف المقالة عن دراسة صدرت مؤخراً لشركة "لينكد إن"- وهي أكبر تجمع إلكتروني مهني في العالم، يضم أكثر من 300 مليون مهني في كل التخصصات، ومقرها الولايات المتحدة– عن هجرة العقول وحركتها بين مختلف دول العالم، حيث صنفت أكثر من 20 دولة، ما بين الرابحة والخاسرة في التنافس لاستقطاب هذه العقول، وكانت المفاجأة أن الدولة الأولى عالمياً في استقطاب المواهب هي "الإمارات العربية المتحدة" كما جاءت مجموعة من الاقتصادات الصاعدة: البرازيل، الهند، جنوب إفريقيا، السعودية، في المقدمة جنباً إلى جنب مع سنغافورا وسويسرا وألمانيا، في الأكثر استقطاباً للعقول. وكانت أكثر الدول المصدرة للعقول: إسبانيا، بريطانيا، الولايات المتحدة، إيطاليا، إيرلندا، في الفترة من نوفمبر 2012 إلى نوفمبر 2013، ولا يدعي المقال أن الصورة الكاملة تغيرت، أو أن الدول المتقدمة تراجعت عن استقطاب المزيد من العقول، لكن ما يريد المقال توصيله، هو أن الصورة ليست قاتمة دائماً، وأن التاريخ لا يسير في اتجاه واحد، وأنه يمكن لكثير من الدول الخروج من هذه الدائرة البائسة في هجرة العقول التي هي أساس في التنمية، وذلك عبر نموذج طبقته دولة الإمارات، يقوم على عاملين جاذبين للعقول والكفاءات والمواهب:العامل الأول: خلق الفرص، وتوفير البيئة الملائمة للنمو والتطور، وأيضاً، المناخ المحفز للاستثمار وإدارة الأعمال، إضافة إلى توفير أجواء عالية من الشفافية والحوكمة الرشيدة، وتساوي الفرص أمام الجميع، مما مكن دولة الإمارات من احتلالها المركز "الأول" عالمياً، في الكفاءة الحكومية، و"الثاني" عالمياً في سهولة ممارسة الأعمال، و"الثالث" عالمياً في الأداء الاقتصادي.العامل الثاني: "جودة الحياة" وهو موضوع كتبت فيه كثيراً، ويعد عاملاً حاسماً في جذب المواهب والكفاءات، لقد كانت نظرة الكثير من المواهب أن "جودة الحياة" في العالم المتقدم أفضل بكثير، وخاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات والبنية التحتية والإلكترونية وغيرها... ولكن دول كثيرة أصبحت اليوم تقدم مستويات من "جودة الحياة" أعلى بكثير مما تجده هذه المواهب في بلدانها؛ مما يسهل ويشجع بشكل كبير قرار الانتقال، حيث تتوافر الفرص الاقتصادية إلى جانب نمط حياة عالي الجودة.ويضيف سموه: بأننا ما زلنا في بداية الطريق، وهذه الدراسة تعطينا لمحة عن المستقبل واتجاهاته وعن التحولات القادمة وطبيعة المنافسة الدولية، ويختم سموه المقال بكلمات قيمة، فيقول: الأمم العاقلة هي التي تؤمن بالإنسان وبقيمته، وبأن رأسمال مستقبلها الحقيقي، في عقل هذا الإنسان وأفكاره وإبداعاته. تجربة دولة الإمارات في عودة العقول العربية المهاجرة تجربة مبشرة، ويبقى أن نضيف إليها: تجربة دول قطر في هذا المضمار، فهي تجربة تستحق الإشادة، فقد سعت دولة قطر على امتداد العقد الأخير، انطلاقاً من مسؤوليتها الوطنية والقومية، إلى جمع الأدمغة العربية المهاجرة واستقطابها في مؤتمر سنوي بالدوحة في "المدينة التعليمية" وبرعاية "مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع"، وبهدف توطين الإنتاج العلمي لهذه الأدمغة وتوظيفه، وذلك عبر شراكة استراتيجية توفر الظروف الملائمة، وفي حرية وموضوعية ودون شروط سياسية أو توظيف أيديولوجي معين، وقد تضمنت هذه الاستراتيجية مبادرة غير مسبوقة، إذ أوجدت "وقفية" نوعية تشكل آلية تضمن تمويلاً مستمراً للبحث العلمي. * كاتب قطري
مقالات
عودة العقول المهاجرة
23-06-2014