بعد أن بدأت التحقيقات في الفساد تحوم حول حكومته وعائلته في ديسمبر، لجأ رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا، إلى اتباع الأساليب نفسها التي اتبعها مع مظاهرات كبيرة ثارت ضد حكومته، وهي وضع اللوم على مؤامرة عالمية تحاك ضد تركيا، وأن هذه المؤامرة هي السبب في مشكلاته.

Ad

وقال أردوغان في كلمة ألقاها أثناء تجمع عقد في مقاطعة مانيسا غربي تركيا، «إن التحقيقات التي طالت حتى الآن أربعة من الوزراء السابقين وشخصيات من رجال الأعمال البارزين، إضافة إلى ابنه، هي جزء من جهود منسقة لإضعاف تركيا، كانت بذورها قد زرعت في يونيو الماضي، عندما تجمعت حشود من المتظاهرين في حديقة جيزي في إسطنبول للاحتجاج على حكمه». وقال «إن القوى المناوئة لتركيا لم تكتف بالاضطرابات التي أحدثتها حول جيزي».

ولكن نظريات المؤامرة التي من هذا القبيل لا تلقى قبولاً حسناً خارج تركيا. فقد أصبح يُنظر بصورة واسعة إلى معركة أردوغان مع السلطات القضائية على أنها جزء من صراع مختمر منذ فترة طويلة مع حركة فتح الله جولن، الداعية الإسلامي الذي كان يوماً حليفاً له، الذي لديه أتباع في الشرطة التركية وفي أجهزة الادعاء والقضاء التركي.

انقسامات سياسية

ومع ذلك هناك علاقة بين رد الحكومة على متظاهري جيزي والفوضى الأخيرة، إذ كشف كلاهما عن الانقسامات السياسية والمخاوف المتقدة حول استقلالية مؤسسات القضاء التركي وسط معركة حامية الوطيس بين الحكومة ومن تعتبرهم مناوئيها في الحياة السياسية ورجال الأعمال في تركيا.

تصفية حسابات

وغالباً ما كان يُشار إلى تركيا على أنها نجم صاعد بين الأسواق الناشئة، لكن اليوم بدأت تظهر مخاوف من أن الإدارة الاقتصادية الرشيدة التي ساعدت البلاد على الازدهار في السنين الأخيرة تفككت لتصبح نظاماً لأشخاص أقل التزاماً بالقانون، وهو النظام الذي أثار أسئلة حول الفساد وبقيت حتى الآن بدون إجابة عنها.

بعد مظاهرات جيزي، بدأ مسؤولون يتحدثون عن عدد كبير من تصفية الحسابات التي نتجت عنها ملاحقة الشركات التي اعتبرتها الحكومة معادية لها، بأنظمة وضعها مسؤلون في أجهزة تنظيمية يفترض أنها مستقلة، لكنهم كانوا مدرجين للعمل لمصلحة قضيتها. وبدأت الأمور تزداد سوءا مع تفاقم فضيحة الفساد الجديدة.

وفي الأسبوع الماضي اتهم أحد مستشاري أردوغان حركة أتباع جولن بشن «حملة شعواء» ضد الحكومة، مع اعترافه بأن «الشركات المرتبطة بجولن» لعبت دوراً كبيراً في نمو تركيا.

وأشار أردوغان نفسه إلى أنه سيتحدث قريباً مع «اللاعبين في القطاع المالي» حول ما يعتبره «انقلاباً قضائيا». ويتحدث التنفيذيون الأتراك عن مخاوف عميقة حول سيادة القانون.

قيود على القضاة

واستجابة لما دأب أردوغان على تصويره بأنه ادعاءات التلاعب بالعطاءات والرشاوى والتهريب كانت بفعل تحركهم دوافع سياسية، عمد إلى المماطلة في إجراء التحقيقات عن طريق نقل مراكز عمل مئات من رجال الشرطة. ويرغب أردوغان الآن في تشريع جديد يتم بموجبه فرض قيود مشددة على القضاة والمدعين. وهو يجادل بأن الحكومة، خلافاً للقضاء، «مفوضة» من الشعب.

وهذا يوجد أجواء صعبة بالنسبة لقطاع لأعمال. وبحسب أحد التنفيذيين: «النظام بأكمله يسوده الآن إحساس بالخوف».

وتتفاخر حكومة أردوغان بأنها مدافعة عن قطاع الأعمال، وأن لديها سجلاً تحسد عليه في تحقيق النجاح الاقتصادي الذي تمثل في نمو بلغ نحو 5 في المئة سنويا منذ أن تولت الحكم بعد الأزمة المالية والمصرفية التي عصفت بالبلاد عام 2002.

وكان أحد أسباب النمو في تلك الأيام، خاصة في الفترة التي سبقت المحادثات الرامية لانضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي عام 2005، تمسك الإدارة الحكومية ببرنامج إصلاحات نُسِب إليه الفضل باعتباره أحد مصادر النجاح الذي حققته تركيا لاحقاً.

رجال المال والأعمال

لكن توجد الآن مخاوف من تعرض هذه المكاسب للخطر. وكان رد الفعل السريع لأردوغان على مظاهرات جيزي هو اتخاذه موقفاً قتالياً تجاه رجال الأعمال والمال، خاصة المجموعات العلمانية منهم، الذين كان كثير من موظفيهم من بين المتظاهرين المشاركين في تلك المظاهرات التي نظرت إليها القاعدة المحافظة لرئيس الوزراء بعين الشك.

وخلال الآلام الأولى التي صاحبت الاحتجاجات في يونيو، انتقد رئيس الوزراء في بادئ الأمر ما سماه «لوبي أسعار الفائدة» في البلاد، إشارة إلى رجال المال المحليين والدوليين الذين يتهمهم بمحاولة إيقاف نمو تركيا. وفي الأيام التي تلت ذلك، أقسم على كتم أنفاس المضاربين واقترح مقاطعة الأتراك المصارف الخاصة. وهاجم شركة كوج هولدينج، أكبر شركة قابضة في تركيا، واتهمها بالسماح بلجوء المتظاهرين للاحتماء في فندق الديوان. وأعلن: «إن حماية وإيواء المجرمين تعتبر جريمة».

وفور مهاجمة أردوغان للمضاربين، أعلن مجلس سوق المال التركي والجهاز التنظيمي للمصارف، التابع للمجلس، عن تحقيقات واسعة النطاق في عمليات السمسرة وتداولات العملات الأجنبية. وأخبر رئيس مجلس سوق المال «فايننشال تايمز» أن السبب الرئيسي للقلق هو تراجع أسعار الأسهم بعد التظاهرات إلى مستويات غير مبررة. ومازالت التحقيقات مستمرة حتى الآن.

استقلال المؤسسات الاقتصادية

وبعد ذلك شن مفتشو الضرائب حملة تفتيش على فرعين من فروع كوج هولدينج، وصاحبهم في الحملة، على غير العادة، رجال من الشرطة. وألغت الحكومة اتفاقية مبدئية لشراء ست سفن حربية بمبلغ 1.5 مليار يورو من أحواض سفن تابعة لشركة كوج، على الرغم من قول المسؤولين إن السبب هو شكوى قدمها صاحب عطاء خاب أمله في الفوز بالمناقصة.

وفي الأثناء، استبدل صندوق للتأمين على المصارف تابع للدولة، رئيس تحرير صحيفة استولى عليها لقاء ديون لم يسددها نائب سابق عن الحزب الحاكم. وفرض الجهاز التنظيمي المسؤول عن الإذاعة والتلفزيون غرامات على محطات تلفزيون عرضت صوراً وأفلاماً عن مظاهرات جيزي.

وهذه الأحداث ومثيلاتها حملت مسؤولين ودبلوماسيين على الإعراب عن مخاوفهم من أن المؤسسات الاقتصادية المستقلة التي ساعدت في ضمان نجاح تركيا في العقد الماضي، أصبحت تخضع بشكل متزايد لإرادة الحكومة.

وقال علي سابانسي، رئيس شركة طيران بيجاسوس، وهي شركة صاعدة تبيع تذاكر سفر رخيصة، بعد أن سُئل في العام الماضي عن تسلسل الأحداث: «نحن دولة بحاجة إلى الاستثمار المباشر الأجنبي، وإذا أصبح المستثمرون الأتراك غير مرتاحين لأن أجندة الحكومة تضمنت هذا النوع من المواضيع، فكيف يمكننا الطلب من المستثمر الألماني، أو السويسري، أو الانكليزي الاستثمار هنا؟ الشيء الوحيد الذي لا يمكننا عمله هو دفع الأجانب للاعتقاد بأننا نتراجع ديمقراطياً إلى الخلف».

* (فايننشال تايمز)

لوبي المصالح الخاصة

أثار أسلوب أردوغان الشخصي في الحكم وإدارته الاقتصادية للبلاد قلقا على الأوضاع فيها. وأصبح البنك المركزي متردداً في زيادة أسعار الفائدة في أعقاب هجوم رئيس الوزراء على «لوبي المصالح الخاصة»، على الرغم من استقلاليته رسمياً. وحدث هذا على الرغم من معاناة الليرة التركية من سلسلة من الانخفاضات مقابل الدولار، واحتواء البنك نفسه على احتياطات محدودة نسبياً.

وقال يوميت بوينر، الرئيس السابق لمنظمة توسياد، منظمة الأعمال التي تضم كبريات الشركات التركية: «مجلس التنافسية والبنك المركزي ومنظم المصارف، جميعها بحاجة للبقاء خارج السياسة، هذا شرط مسبق لنجاح تركيا».

لكن تآكل المؤسسات أصبح واسعاً، إذ سعت أنقرة لسحب الصلاحيات من ديوان المحاسبة التركي، الأمر الذي دفع بالمفوضية الأوروبية إلى الإعلان عن قلقها الشديد على استقلالية وفاعلية الحكومة في التدقيق والسيطرة على الإنفاق الحكومي.

سياسات الوصاية القديمة

عملت سلسلة من التغييرات على قانون المشتريات العامة في تركيا على إعفاء كثير من المشاريع البارزة في البلاد. وعلى الرغم من فضيحة الفساد، إلا أن البرلمان يدرس هذا الشهر اقتراحاً حكومياً يهدف الى تنفيذ مزيد من هذه الاستثناءات، مع اتخاذ إجراءات تجعل من الاستفسار عن نتائج العطاءات أكثر تكلفة من قبل.

ويقول أحد المسؤولين الدوليين الكبار في أنقرة: «القلق الحقيقي ناتج عن أنهم أصبحوا يكتشفون من جديد سياسات الوصاية القديمة التي وضعوها جانباً منذ أكثر من عقد مضى. كانت هذه المؤسسات المستقلة عاملاً رئيسياً في تغيير نظرة الناس إلى تركيا، وتستطيع أن تقول إنها هي ما نحتاجه لكي نصبح دولة عالية الدخل».

وأشار المسؤول أثناء تقييمه حجم المخاطر التي تدمر استقلالية مثل هذه المؤسسات، إلى تراجع الاستثمار المباشر الخارجي من الذروة التي بلغها وهي 22 مليار دولار في عام 2007، إلى 11 مليار دولار في الـ12 شهراً التي انتهت بنهاية سبتمبر الماضي. وترك هذا السقوط تركيا تعتمد على التمويل الأجنبي قصير الأجل لتمويل اقتصادها - وتمويل العجز في الحساب الجاري البالغ 60 مليار دولار- في وقت يمكن أن يتم فيه تقييد التمويل الناتج عن السياسة النقدية الأميركية التي لم تعد سخية كما كانت سابقاً.

ويقول دبلوماسيون ومسؤولون في مجالسهم الخاصة، «إن مستثمرين مباشرين محتملين أحجموا عن التدخل منذ الإجراءات التي اتخذت ضد المتظاهرين في جيزي، بسبب الأجواء السياسية الغامضة والعواقب المحتملة على الأعمال».

أزمة الشوكولاته

في هذا الصراع لم يتبق للشركات في تركيا أراض محايدة تذكر لتقف عليها. وحتى خيارات المستهلكين في شراء أصابع الشوكولاته بات يحددها ما إذا كان صانعها من العلمانيين أم الإسلاميين. وأصبح يُنظر إلى مجموعات الأعمال الثلاث الكبيرة - توسايد وموسايد وتوسكون - على التوالي أنها قريبة من النخبة العلمانية، وحزب أردوغان، وحركة جولن.

ونتيجة لذلك يجد كثير من الشركات أن من الصعب عليها أن تجد ملجأً من التشنجات التي تهز الحياة السياسية في تركيا. فبعد أيام من إلقاء أردوغان كلمته في مانيسا، قالت كوزا ألتين، وهي شركة لتعدين الذهب مقربة من حركة جولن، «إن الحكومة أغلقت أحد مناجمها الرئيسية، رغم أنها قدمت جميع المستندات اللازمة». (بعد ذلك نقضت إحدى المحاكم قرار الإغلاق).

منذ ذلك الحين تشير صحيفة موالية للحكومة (تمتلكها إحدى شركات الإنشاءات المستهدَفة في التحقيق)، ووسائل إعلام مرتبطة بجولن، إلى أن مؤسسات الدولة تسحب الودائع من أحد المصارف المرتبطة بجولن من أجل إضعافه.

ويتساءل صناعيون بارزون الآن عما إذا كان من الممكن في ظل مثل هذه الظروف التي تمر بها تركيا التي كانت في الماضي محل إعجاب كونها من أفضل الأسواق الناشئة، أن تستمر في النمو وتسمح للأعمال بالازدهار.

ويقول محرم يلماز، رئيس توسياد، في مقابلة مع صحيفة «مِلِّيِّت» التركية: «نحن في موقف نتساءل فيه عن المؤسسات الأساسية للدولة. تستطيع الأسواق أن تشعر بالأمان فقط حين تكون سيادة القانون مفروضة ومعمولاً بها».

ويضيف يلماز، مؤكداً أهمية الاستقرار لبلد يعول كثيراً على الأموال الأجنبية: «إن تركيا تخسر القيمة».

هبوط قياسي لليرة التركية أمام الدولار

هبطت الليرة التركية إلى مستوى قياسي جديد فوق مستوى 2.2 ليرة للدولار امس، بعد ان أدى ارتفاع العملة الأميركية إلى تفاقم التأثير السلبي لفضيحة فساد تكتنف الحكومة التركية، بحسب «رويترز».

وانخفضت الليرة إلى 2.2045 ليرة للدولار، قبل أن تصل بحلول الساعة 06:53 بتوقيت غرينتش إلى 2.2028 ليرة.

وتحدث محللون ماليون عن وجود مضاربات خارجية على العملة التركية، مسببة ارتفاع مستويات السيولة النقدية من الخارج بعملات عالمية، تستفيد من تبعات برنامج التيسير الكمي الأميركي في المضاربة على العملات للدول التي يعاني اقتصادها ضعفا في الأداء.

(رويترز)

وزير المالية يدافع عن مؤسسات بلاده

يدافع وزير المالية التركي محمد سيمسيك، بقوة عن مؤسسات البلاد ويرفض الفكرة القائلة إن قرارات الحكومة، مثل إجراء تحقيقات في الضرائب، لها دوافع سياسية. ويقول: «تُجرى في كل سنة أكثر من 50 ألف عملية تدقيق، وأنا لا أوقع على أي واحدة منها، ولم تصلني تقارير عنها أبداً».

ويلفت سيمسيك الانتباه إلى أنه حتى المشتريات الحكومية المستثناة من قانون المشتريات العامة خاضعة لقوانين سابقة، ويدلل على ذلك بقوله: «إن مجال صلاحيات ديوان المحاسبة تحت الأنظمة الحالية واسع جداً»، مضيفا أن «التعاون بين البنك المركزي والحكومة أمر أساسي في كل الدول».

لكن التحقيقات المضادة للفساد جعلت من الوضع أكثر اضطراباً. ونتيجة للادعاءات بالتلاعب في العطاءات وقبول الرشاوى، ألقت التحقيقات أضواء قاسية تطال العلاقات بين الحكومة والشركات المفضلة المحببة، خاصة في قطاع البناء.

التحقيقات الآن في حالة من الفوضى. فإذا عملت الشرطة بموجب توجيهات ممثلي النائب العام، فإنها ستكون عرضة للاستبعاد بسرعة بأوامر من الحكومة. مثلا، تم هذا الشهر نقل اثنين من كبار ضباط الشرطة في ازمير من مراكزهما في اليوم نفسه الذي شنا فيه غارات مضادة للفساد.

يمكن أن يكون لذلك تأثيرات عميقة في الاقتصاد. ورجال الأعمال البارزون المشاركون في خطط الحكومة المفضلة لبناء مطار بتكلفة 36 مليار يورو جُمِّدت أصولهم. وهم يدعون أن الدعاوى المقامة ضدهم لا أساس لها من الصحة. ويجادل أردوغان بأن التحقيقات استهدفتهم، لأن هناك قوى دولية لم يسمها لا تقبل بأن يكون لتركيا مثل هذا المطار الجديد الكبير.