كان موقف الرأي العام من (الاتفاقية الأمنية) المقترحة قاسياً وشاجباً دون أي بوادر للتفاوض أو النقاش، ويبدو أن المحافظة على مكاسب الديمقراطية لدينا في الكويت، والحرص على سقف الحريات كان وراء هذا الرفض البائن. بيد أن معنى كلمة (اتفاقية)– وهي كلمة بنّاءة وإيجابية- كانت تحتاج إلى المزيد من التأمل والتأني، مع إمكانية استبدال كلمة (الأمنية) بمعنى آخر أكثر إيجابية وطموحاً، مثل (الاقتصادية) أو (التنموية) أو (الإقليمية) أو حتى (الثقافية). وما أجدر بالرأي العام الذي يشجب ويرفض، أن يفاوض ويناور ويقترح البدائل التي تخدم التطلعات والأهداف الوطنية العليا. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار مدى تأثير الرأي العام في القرار السياسي في نهاية المطاف.

Ad

 في هذا الوقت بالذات، حيث تشهد المنطقة العربية حالة من عدم الاستقرار السياسي، ومن الانعطافات الحادة في أنظمة الحكم، وحيث تسود بؤر العنف الحزبي والطائفي، وحيث الاضطرابات لاتزال هي الخبز اليومي في كل من العراق وسورية ومصر وحتى شمال افريقيا، نقول في ظل هذه القلاقل التي تعمّ المنطقة يبدو إقليم الخليج والجزيرة العربية – نسبياً - الإقليم الأكثر استقراراً وقابلية للتماسك وصنع كيانا سياسيا وبشريا له اعتباره ومكانته.

 إن قليلاً من التأمل في الإمكانات المتوافرة في دول المنطقة يعزز هذه النظرة المتفائلة. فدبيّ الإمارات قطعت شوطاً في التأسيس لمركزها المالي والاقتصادي، وغدت قبلة للاستثمار والسياحة، ومقصداً عالمياً للأفئدة التي تهوي إليها من جهات الأرض الأربعة. ناهيك عن مراكزها الثقافية الأخرى في الشارقة وأبوظبي التي

لا تقل جذباً وتألقاً عن دبي. أما قطر فها هي تكتسح عواصم العالم المهمة باستثماراتها المليارية، وتؤثر بالرأي العام العربي والعالمي بقنواتها الفضائية الشهيرة، ناهيك عن ثقلها السياسي الآن وقدرتها على التدخل في صياغة المشاهد السياسية في أكثر من موقع ومجال، وفي ما يخدم مصالحها وطموحاتها. وتأتي عُمان بمساحاتها الشاسعة، وجمال طبيعتها، وإمكاناتها السياحية، ونشاطها التنموي، وموقعها المتميّز، لتكون الشرفة البحرية والرئة التي تمتلئ بالأكسجين والعافية . أما المملكة العربية السعودية فيبقى لها ثقلها السياسي ومركزها الديني المتميّز، ناهيك عن امتدادها التاريخي العريق، كونها جزيرة العرب ومسقط رأسهم ومنبع ديانتهم ومنبت أصولهم. وأخيراً يبقى للكويت ديمقراطيتها العريقة، وحرياتها، وريادتها الثقافية، وانفتاحها.

وإذا أضفنا لكل ما سبق ما تتمتع به المنطقة ككل من ثروات معدنية، ونفط وغاز، ومن موقع متميّز على أهم بحار العالم ومضايقه، أمكن لنا أن نستوعب الصورة كاملة ونتأملها بعمق وتؤدة.

  كنا، وربما لا نزال، أسرى لفكرة نمطية تمت برمجة عقولنا عليها، وهي فكرة المركز والأطراف. فقد ألقى في روعنا أن مركز المنطقة العربية هي مصر والشام والعراق، أما الأطراف فهي منطقة الخليج والجزيرة من ناحية، وبلاد المغرب من ناحية أخرى. وأن المركز هو الحضارة والعراقة والتطور والثقافة، أما الأطراف - وخاصة منطقتنا – فهي البداوة والتخلف والجهل، وأننا سكان صحراء هبطت عليهم ثروة لا يستحقونها، ولا يحسنون إدارتها واستثمارها، اللهم إلا في الملذات والمقامرة!

 لكن قد لا يخفى على أحد أن الأرض كروية، وأن أي بقعة عليها يمكن أن تكون مركزاً لما حولها. وأعتقد أن دائرة الزمن قد دارت الآن، وها هي الظروف تضع منطقتنا في عين التحدي، بل تهيئها للعب دور مهم في إعادة تشكيل الواقع السياسي الراهن.

 هناك الكثير من الفترات التاريخية الحاسمة التي تهيئها الظروف والأقدار للشعوب والأمم، ولكن يبقى السؤال مطروحاً حول مدى الاستفادة من زخم مثل هذه اللحظات الفاصلة وحُسن تجييرها لصنع تاريخ جديد. نقول هذا بمناسبة أعيادنا الوطنية، التي نتمنى ألا تظل مجرد احتفالات (مظهرية ساذجة) بتاريخ مضى حول إلغاء معاهدة حماية أو التخلص من غزو فاجر، بقدر ما تكون تأمّلاً في مستقبل أكثر أمناً وازدهاراً لعموم المنطقة. وعليه فإن إعادة التفكير في صنع اتفاقيات مشتركة يظل أولوية وضرورة، وحبذا لو شارك الرأي العام عبر منابره وقنواته الإعلامية في اقتراح صور من اتفاقيات تحقق شكلاً من التقارب والتكامل السياسي والاقتصادي والأمني، في زمن لم تعد فيه الكيانات الصغيرة قادرة على الصمود والتأثير. إن الاكتفاء بمجرد التنديد والرفض السلبيين دون اقتراح بدائل أشبه بالاتكاء على فراغ أو صراخ في الهواء. والحرية المسؤولة ليست أقوالا مرسلة، إنما هي قبل ذلك فعل وإنجاز وبناء.