صحيح أنّ القصيدة إبحار شهيّ صوب الجمال، وصحيح أنّها إذا تحوّلت إلى محاضرة أو درس في التاريخ أو نشرة أخبار فقدت مبرّر وجودها، إلاّ أنّ الألم يعرف كيف يزيد الجمال جمالاً، ولا سيّما حين يكون مستوطناً صدر شاعر مشرّد من الوطن والإنسان سائر وظلّه بمعيّة الغربة السوداء على أرصفة المنافي.

Ad

«ومضات» صلاح فائق ليست سوى دموع طالبة حقّ اللجوء العاطفي إلى اللغة، وخيبات عارفة ألا مكان لها أكثر دفئاً من حضن القصيدة. وواضح أنّ الشاعر يتبنّى في قصائده وجعاً يسكنه، لكنّه يجتازه ليكون وجع الآخرين الذين جعلتهم الحياة يلتقون على صليب النكبة.

يهدي فائق قصيدته الأولى «مقهى المجيديّة» إلى أنور الغسّاني. وتصلح هذه القصيدة لأن تقدّم المفاتيح الذهبيّة للقارئ ليستطيع أن يتفاعل مع مناخ الجملة الفائقيّة: «ألوان الثعابين، وهي تختال، أغرتك أن تعود/ إلى كوستاريكا لتسحب سفناً مع رجال أشدّاء/ ولم يغب من رأسك مكفّنون يهاجمون مظاهرة»... فالقضيّة، إذاً، قضيّة نضال قديمة، فيها مَنافٍ تمدّ ذاكرة المنفيّين بالخصوبة، وتزيدهم صلابة كتلك التي في زنود رجل يشدّ سفينة وتبقي في وجدانهم ضجيج التظاهرات ولابسي أكفان الحرّية وهم يهاجمون أهلها. وإذا كان الشاعر يجرّب حظّه في رثاء صديق فهو يرثي المكان وأهله في آن، يرثي رجلاً هو بعض من وطن، ويرثي مدينة انسحبت من جمالها قبل الأوان ففي مقابرها موتى حملوا حيرتهم في وجوههم إلى ما بعد الموت وهرّبوا في صدورهم شيئاً كثيراً من الحياة: «... افتتانه بكركوك وبابليّيها، بيوتها المنهكة/ مدينة زهور تذبل قبل الأوان/ وفي مقابرها يهيم موتى حائرون».

أقسى من شيخ قبيلة

وللخيبة حصّتها من المشهد، فهي أقسى من شيخ قبيلة يئد أحلامها تحت سماء لا تبشّر بالخير، إذ إنّ صور الطغاة وكلّ الذين لا ينتمون إلى كرامة الحياة والإنسان لا تزال تُلحَس، والحرائق الكبرى الجميلة المحمولة على أكتاف الرغبات ذهبت بها ريح سوداء قبل أن تفتح باب السجن الكبير والموت الكبير، بينما النهر يضيء شموع ذاكرته ويحمل الهدايا إلى عميان المدينة: «ما زلنا هنا نلحس صور من نكرههم/ رغباتنا تهفو إلى حرائق كبرى/ ونهرنا (تتذكّره؟) يرفع إلى عميان المدينة ومضات ونفائس».

وعلى امتداد ومضاته، يواصل فائق نحت الأكفّ بالمسامير على الصلبان، ويحاول التنويع في دائرة وجع واحد. ويعلن أنّ للقصيدة شروطها لتكون مؤثّرة. وفي هذا السياق لا بدّ للشاعر من أن يكون آتياً من «أوروك» مكلَّلاً باليأس، عاقداً معاهدة صلح مع الجبال والأنهار والأشجار لتغدو الطبيعة أكثر من مكان فهي الرّحم الذي في ظلاله تُنسَج روح الشاعر، وعليه، فإنّ أوتار الكمان لا تستطيع أن تقول نغماً أميناً للانتماء إلاّ إذا كانت من شعر حصان: «كي تكتب قصيدة مؤثّرة/ عليك القدوم من أوروك/ تقيس يأسك بأشبار وأنت تخرج من مصعد/ تتصالح مع الجبال والأنهار وأشجارهما/ تشدّ أوتار كمانك، قيثارتك، من شعر حصان»... وفائق يشدّ على يد اللغة لتمضي به نحو البدايات، نحو عطر البكارة حيث أوّل النّهر، وذلك ربّما للتخلّص من خطايا الرّحلة التي أخطأت الطريق ولم تكن وفيّة للبياض الذي كان كثيفاً جدّاً في صدر البداية: «أقول لنفسي أيّها المليح/ عليك السّير حتى منابع الأنهار/ لتغرس هناك نايات الرعاة».

لفائق مشكلة كبرى مع الرعاة الذين عرّوا الحرّية من نارها وجعلوا شعرها الطويل سلاسل في أيدي الأحرار. إنّه ينشد راعياً ذا ناي يعيد من أوّل النّهر زمن الفرح الحقيقيّ الذي يتّسع للإنسان والوطن متعانقين دون أن يكون بينهما ظلّ أحمر لسيف السفّاح.

وشم على زند

وإن مضى فائق بخيال قلبه نحو الحبّ، فأنثاه وشم على زند التاريخ، لا تستطيع أن تكون خارج نشوة طالعة من صدر الخمر العتيقة: «أقول لها: وليمتي لكِ تليق بثائرين/ أنا بيتكِ في جبل وحولي خيول/ أوزّع عليها في المساء شراب الآشوريين/ بطاسات من نحاس». ومن بوح إلى آخر يلاحظ القارئ أنّ فائق يخضع دائماً للجلد من كائنات جميلة تقيم في ذاكرته، لأنّه يعيش بين زمنين بعيدين: زمن البداية وزمن الحاضر، فالأوّل سخيّ بكلّ ما يجعل الأرض امتداداً للسماء والبشر امتداداً للآلهة، والثاني لا يجود إلاّ بالخيبة والمرارة مرتاحتين في عربة تجرّها أحصنة الموت إلى حيث يتقاعد الحلم فيدعى يأساً ويتنازل الشجر عن صناعة الغابة فيسمّى حطباً أو رماداً.

وإن كانت لغة فائق لا تحتفل بالضجيج وأنهار الدماء ذات الخرير العالي فهو ثائر بكلّ ما فيه من الشاعر، إلاّ أنّ ثورته تحترف الصلابة على مجاز متألّم، فعلى سبيل المثال، لا مودّة بينه وبين البحر، لأنّ الصخر يردّ الموج عن قرى قريبة، ما يدفع البحر إلى نزال الصخور التي يكويها بأملاحه، ويرسل من أعماقه مفترسين إلى مستعمرات النورس، هؤلاء المفترسون يؤلّفهم البحر، يرتجلهم بلحظة غضب لكي يكون منسجماً مع اتّساعه وسيادته على أزرقه الكثير: «أفهم أن يكره البحر صخور الشواطئ: تردّ أمواجه عن قرى قريبة/ لذا يلطم تلك الصخور بأملاحه، يغرق مستعمرات النوارس/ أو يندفع إليها، من أعماقه، مفترسون»...

ومهما تعدّدت الطرق ففائق لا يولي وجهه إلاّ قِبلة مدينته التي ورّطته بالحبّ ومارست في حقّه قتلاً مختلفاً، لأنّها لم تترك ماسة في مناجم رأسه، ودعته للعبور إلى الحكايات القديمة من ثقوب الناي لتجعله رثّاء مدن بلا منازع، ولتوجد له مأوى يقيه فراغ هذا الزمان وفراغ ناسه حيث يعيش مع هؤلاء الذين تركوا من أصابعهم رحيقاً على لحم البداية: «أيّتها المدينة، أينما كنتِ / أنت الأخرى تقتلين بالهمّ/ فيكِ فرغتْ مناجم رأسي/ تسلّلتُ عبر ثقوب الناي إلى حكاية قديمة/ هارباً من خفافيشكِ/ من قرويّين هدّدوني بأسنانهم».

في «ومضات» تأريخ لهزائم نبيلة بلغة شعريّة عاشقة يخاصرها صلاح فائق تحت قناطر الرمزيّة التي، وفي أكثر من مكان، تترك للقارئ هامشاً للتأويل أو للإضافة ربّما لأنّ الشاعر يخشى على جروحه أن لا تأخذ حقّها كاملاً من الوضوح.