الوقوع في غرام ألمانيا

نشر في 31-12-2013
آخر تحديث 31-12-2013 | 00:01
عندما تستقر حكومة ميركل الجديدة، فإن ألمانيا سوف تضطلع بدور أكثر أهمية في مواصلة المزيد من التكامل الأوروبي، وهي عملية ستتطلب تضحيات إضافية، بما في ذلك التنازل عن السيادة الوطنية، وستكون هذه التضحيات استمراراً لتاريخ ألمانيا الطويل من إنكار الذات.
 بروجيكت سنديكيت كانت الانتخابات العامة في ألمانيا التي عقدت في سبتمبر وتشكيل الحكومة الجديدة الذي استغرق وقتاً طويلاً منذ ذلك الحين من الأسباب التي دعت إلى تسليط الضوء على تطور غريب، فليس الأمر أن ألمانيا تبدو اليوم وكأنها تدير أوروبا فحسب، بل يبدو الأمر أيضاً وكأن بقية أوروبا وقعت في غرام ألمانيا- ليس فقط لأن الألمان هم الشعب الأوروبي الوحيد الذي يبدو وكأنه يعرف ماذا يريد في أوقات الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار الاقتصادي.

الواقع أن استثنائية ألمانيا أمر واضح، ففي حين عاقب الناخبون في أنحاء الاتحاد الأوروبي المختلفة حكوماتهم بسبب الركود العظيم وأزمة اليورو، أعاد الألمان انتخاب المستشارة أنجيلا ميركل وأبدوا دعمهم القوي لحزبها، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، في الانتخابات الأخيرة. وكما حدث مع أول زعيم ألماني بعد الحرب، كونراد أديناور، انطلقت النكات حول كون ميركل مستشارة مدى الحياة (لا توجد حدود لمرات الترشح في ألمانيا).

وفي أماكن أخرى، كانت الأحزاب الشعبوية المناهضة لأوروبا تكسب المزيد من الأرض استناداً إلى حملات انتخابية موجهة ضد المهاجرين والأقليات، خصوصاً المسلمين. وكان هذا سبباً في تغذية المخاوف من أن تكون هذه الكتلة الشعبوية هي الأكبر في البرلمان الأوروبي بعد الانتخابات على مستوى الاتحاد الأوروبي في العام القادم.

وعلى النقيض من ذلك، لا يوجد في ألمانيا حزب واحد مناهض لأوروبا يحظى بأي دعم يُذكَر. حتى البديل من أجل ألمانيا الذي تشكل حديثاً- الذي كان أداؤه طيباً على غير المتوقع في الانتخابات الأخيرة، حيث حصل على ما يقل قليلاً عن نسبة الـ5% المطلوبة لدخول البرلمان الألماني- يصر على أن أجندته المناهضة لليورو ليست موجهة ضد أوروبا، وهم يريدون إنهاء العملة الموحدة، لأنها في نظرهم تعمل على تقويض المثل الأعلى الأوروبي.

وعلى هذه الخلفية، بدأ جيران ألمانيا يظهرون حبهم- أو على الأقل إعجابهم. ففي نهاية عام 2011، دعا وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي ألمانيا إلى الاضطلاع بدور قيادي أكثر قوة في أوروبا، ثم هذا العام، وفي مواجهة إحياء المشاعر القومية، اقترح الرئيس البولندي الأسبق ليخ فاونسا- زعيم "حركة تضامن" المناهضة للشيوعية- أن بلاده لابد أن تدخل في اتحاد سياسي مع ألمانيا.

وعلى نحو مماثل، مع انزلاق فرنسا إلى أزمة حكم وتآكل مصداقية قادتها، نشر المفكر الفرنسي الرائد آلان مينك كتاب "تحيا ألمانيا"، حيث يزعم أن ألمانيا هي الدولة الأكثر صحة وديمقراطية في أوروبا.

وفي إيطاليا عرضت الطبقة البرجوازية في ميلانو وروما وجهة نظهرها بارتداء المعاطف الألمانية المميزة طيلة فصل الشتاء، وعندما تحدث الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين أخيراً عن ضرورة قيام إمبراطورية لاتينية تؤكد ذاتها في مواجهة ألمانيا، قوبل اقتراحه بالرفض على نطاق واسع، في حين أكد العديد من معاصريه على أن ألمانيا لابد أن تخدم على النقيض من ذلك كنموذج لإيطاليا في سعيها إلى التغلب على وعكتها الحالية.

حتى في المملكة المتحدة المتشككة في أوروبا عادة، سعى رئيس الوزراء ديفيد كاميرون إلى تعزيز مصداقيته الدولية من خلال تسليط الضوء على علاقاته الوثيقة مع ميركل، بدلاً من التأكيد على "العلاقة الخاصة" بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وأخيراً نشرت الكاتبة ميريندا سيمور كتاباً بعنوان "المساعي النبيلة"، لكي تذَّكر بريطانيا بعلاقة الحب التي دامت قروناً من الزمان بين ألمانيا وإنكلترا، بل ربما تعيد العائلة المالكة تصميم نفسها على غرار "بيت هانوفر".

وفي حين ينبع هذا الإعجاب جزئياً من النجاح الاقتصادي الحالي في ألمانيا، فإن المشاعر أشد عمقاً- وتمتد إلى ما هو أبعد من أوروبا، فالصين على سبيل المثال تعتبر ألمانيا أكثر من مجرد نموذج للنمو القائم على التصدير؛ إذ يرى العديد من الصينيين أن هذا النجاح يسلط الضوء على الطريقة التي تشكل بها المسار التاريخي لألمانيا من خلال صراعها مع روح الاستبداد في الماضي.

ويرسي الدستور الألماني- الذي اعتمد أولاً في ألمانيا الغربية في عام 1949- الأساس لتصور مذهل يؤكد عزيمة البلاد في "الحفاظ على وحدها الوطنية والسياسية وخدمة السلام العالمي كشريك يتمتع بحقوق متساوية في أوروبا الموحدة". ومع اعتبار تقسيم ألمانيا نموذجاً مصغراً للانقسام الأوروبي الأوسع أثناء الحرب الباردة، فقد بدا احتمال إعادة توحيد شطري ألمانيا أمراً مستحيلاً في غياب سياق أوروبا المتكاملة- وهي النقطة التي شدد عليها المستشار الألماني هيلموت كول في مناظرات عام 1990 عندما أشير إلى إعادة التوحيد.

وتصلح ألمانيا التي نشأت من هذه العملية على نحو فريد من نوعه كنموذج لأوروبا، نظراً لطابعها الفدرالي، الذي انعكس في الضمانات الدستورية القوية لحقوق الولايات. ويعكس التزام ألمانيا العميق بأوروبا وإصرارها على التمسك بالمبادئ الدستورية الجهود الحثيثة التي بذلتها من أجل فهم الخلل الذي حدث في فترة ما بين الحربين، وعواقب العنصرية والقومية المفرطة، وتراث الجرائم النازية. والواقع أن قِلة من البلدان استوعبت الدروس من تاريخها بهذه الدرجة من الفعالية.

وعندما تستقر حكومة ميركل الجديدة، فإن ألمانيا سوف تضطلع بدور أكثر أهمية في مواصلة المزيد من التكامل الأوروبي، وهي العملية التي ستتطلب تضحيات إضافية، بما في ذلك التنازل عن السيادة الوطنية. وبشكل ما، سوف تكون هذه التضحيات استمراراً لتاريخ ألمانيا الطويل من إنكار الذات.

كل مئة عام تقريباً منذ إصلاحات لوثر، كان عدد الوحدات السياسية الألمانية المستقلة يتضاءل إلى واحد على عشرة، وبموجب "معاهدة ويستفاليا" للسلام في عام 1648 تضاءل عدد الوحدات المستقلة في الإمبراطورية الرومانية المقدسة من نحو 3000 أو 4000 إلى 300 أو 400. وفي أعقاب حروب نابليون، هبط عدد الولايات الألمانية إلى 39. وبحلول عام 1866 كان عدد الأعضاء المتبقين في الاتحاد الألماني قد بلغ 34 فقط.

ثم أفضت جولة أخرى من الحروب ومعاهدات السلام إلى إنتاج "سؤال الإمبراطورية الألمانية" في عام 1871، ولم يتبق في أوروبا آنذاك سوى ثلاث ولايات يتحدث أغلب سكانها اللغة الألمانية- الإمبراطورية الألمانية، والنمسا والمجر (وحدة الأسر المالكة التي عُرِفَت باسم إمبراطورية هابسبورغ)، والاتحاد الكونفدرالي السويسري- ولم تكن أي منها دولة قومية تقليدية. ورغم أن تقسيم ألمانيا في عام 1949 إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية والجمهورية الديمقراطية رفع العدد إلى أربع ولايات (جنباً إلى جنب مع النمسا وسويسرا)، فإن المسار العام كان واضحاً.

وإذا تولت حكومة ألمانيا الجديدة قيادة التحرك نحو أوروبا أكثر قوة وفدرالية، فقد لا تتبقى بعد قرن من الزمان أي وحدة سياسية ألمانية ذات سيادة على الإطلاق، ففي نهاية المطاف تعيش ألمانيا وعشاقها في سعادة دائمة إلى الأبد.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ في جامعة برينستون، وكبير زملاء مركز «إبداع الحوكمة الدولية» (CIGI).

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top