فن عظيم = حضارة عظيمة

نشر في 10-02-2014
آخر تحديث 10-02-2014 | 00:01
 فوزية شويش السالم ساحر ومبهر... افتتاح الدورة الأولمبية ليلة الجمعة بتاريخ 7 فبراير 2014 في مدينة «سوتشي» الروسية، افتتاح أبهر العالم كله بجمال عرض فني قوي وصارم في دقة اكتماله، انضبطت فيه كل معايير المتعة والإبهار بكل أدوات العرض، في تكامل وتناغم ما بين الأجسام البشرية والآلات الموسيقية والميكنة المرسومة بسينوغرافيا لعبت وأرقصت أجساد المعادن وأجساد البشر المتحركة في هذا العرض الفني الجديد والفريد من نوعه، قدم لنا لوحات مختلفة لمراحل مفصلية مهمة في التاريخ الروسي، ومنها اللوحة الأولى التي أظهرت ساحة الكرملين بمعالمها وهندستها البنائية الشهيرة في مشهد خرافي، خاصة عندما تحركت وسارت في الساحة القباب والمباني بحركات راقصة لا يمكن حدوثها إلا في الحكايات الأسطورية السحرية.

مخرجو العرض ومصممو السينوغرافيا هم العقول التي جعلت مدينة بساحاتها ومبانيها تسير وتتمشى وترقص أيضا في واقع كأنه حلم مسرنم، وينتقل المشهد الآخر إلى روسيا القيصرية حين تنشق الأرض فجأة لتنبثق أمام الجماهير صالات القصر العظيمة بتلك الأبهة المتلألئة بأنوار الأعمدة الضخمة التي استطالت من القاع إلى السماء بألوانها المتموجة بحركة الضوء ورقص البالرينات الرشيقات الطائرات مثل فراشات ضوء تهفو نحو النور السابح في ليل عظمة تاريخ أفل، هذا المشهد أعادني بلمحة خاطفة إلى مراهقتي المأخوذة والمتقطعة الأنفاس في ذات المشهد المفتتح به رواية تلستوي العظيمة «الحرب والسلام»، فهذه ناتشا الفتاة الثرية الجميلة المدللة ترقص مع بيير الشاب المثقف السمين المرتدي نظارته وحاجب في قلبه حبه الكبير لنتاشا، التي بدورها تحب أندريا الذي يصارحها بحبه في هذه الليلة قبل ذهابه إلى الحرب، يسطع المشهد بذاكرتي حتى قبل أن يردده على أسماعنا المذيع الناقل للعرض، الذي لن يحتاج إلي معرفته أحد، فمن منا لا يتذكر هذا المشهد العظيم الذي تبدأ فيه رواية الحرب والسلام؟

الفن العظيم يحفر وينحت وجوده في ذاكرة كل من قرأه أو شاهده، وهذا أكبر مثال على ذلك، فمنذ قراءتي الأولى وإلى زمن هذا العرض، لم يمح ولم تغب تفاصيله عني، فما أعظم هذا الفن عندما يأتي بأصالته ليُخلد فيها إلى أبده.

بعده يأتي مشهد الحروب الدموية التي غيرت حياة روسيا القيصرية ونقلتها إلى الطبقة العاملة الكادحة، بعد ما امتلأت ساحات روسيا بالدماء والمعارك والفتن، وأيضا جاءت الكتابة العظيمة التي خلدتها رواية الحرب والسلام لتولستوي ورواية «د۔زيفاكو» لمؤلفها بوريس باسترناك الذي نقل لنا بشاعة الحرب الروسية والموت المجاني الذي طال الجميع فيها، فمن يستطيع أن ينساها؟

مشاهد نُحتت على ذاكرة التاريخ الفني الإنساني العالمي وليس الروسي فقط، هذا فن بات ملكا عاما، لذا بمجرد عرضه في الساحة قفز في الذاكرة الجمعية لكل من شاهده، سواء كان جالسا في العرض أو عبر شاشات الفضائيات العالمية.

هذا هو الفن العظيم الذي يخلق حضارات عظيمة، فهل مازال هناك من ينادي بوأد الفن؟

نحن من غيره شعوب بلا ذاكرة، ولن يتبق منا شيء يشار إليه بالبنان ليميزنا ويفرقنا عن الآخرين، لقول هذه هي حضارتنا التي خصنا بها فننا العظيم، فما هي الذاكرة التي ستحملنا لنصطف مع حضارات العالم المميزة الخالدة؟

العرض الروسي جعلني أتحسر علينا، فلا شيء رائد أو مبتكر في أي مجال كان، نستطيع أن نفرح ونحن نفاخر الدنيا به، والظاهر أنه لن يكون، طالما أن هناك من يحرم الموسيقى وبقية الفنون حتى نبقي في نهايتنا شعوب ممحية من لوح الخلود، فنحن لا نملك موهبة الإبداع والابتكار، وهذا واضح في كل احتفالاتنا سواء كانت العربية أو الخليجية، فهي ذات التكرار والإعادة، وهذا الشيء ملحوظ في احتفالاتنا في الكويت، فهي نفس الخطوات الراقصة أو بالتحديد هي خطوة واحدة يتيمة محفوظة عن ظهر غيب ثم يعقبها صرخة هيا، وتكرر هذه الخطوة بكل الرقصات مهما كان ما تعبر عنه، صحراء، بحر أو مدينة، أو بشر ثم صرخة الهيا، وخلصنا، ويلاحظ بشكل واضح في فيديو شركة زين الأخير، وكان باستطاعتهم الإتيان بمدرب أجنبي يستنطق التراث من جديد.

بينما الحيرة تأخذنا في كل دورة عرض عالمي تذهلنا وتجعلنا نتساءل: ما الذي تبقى ليأتي به الذي حل عليه الدور القادم؟

back to top