قبل أيام من الذكرى الخمسين لاغتيال جون ف. كينيدي، امتلأ أثير المحطات الإذاعية وشاشات التلفزيون وأعمدة الصحف والمجلات بنظريات المؤامرة المعهودة.

Ad

نشهد ظاهرة مماثلة في المسألة السورية. فمع تفكك الواقع الملموس في هذا البلد، ينحل الإطار الفكري أيضاً.

نرى تفسيرات كثيرة للأحداث التاريخية التي شهدناها منذ انطلاق الانتفاضة. لكن اللافت للنظر أن توضيحات بسيطة تُفرض على أحداث بالغة التعقيد على نحو مخيف.

يتجلى تشعب الحجج المطروحة بشأن سورية مع اليسار السياسي، الذي أثار تشويهات فكرية كثيرة منذ بداية الحرب.

لعل أبرز هذه التشويهات المؤسفة ميل اليساريين إلى اعتبار الحملة المؤيدة للتدخل في سورية، التي تتراجع راهناً، تكراراً لحرب العراق عام 2003. كذلك ينسبون أهدافاً شائنة إلى مؤيديها. صحيح أن بعض السائرين على درب التدخل في سورية (مثل ديك تشيني وغيره من المحافظين الجدد الأميركيين) لا يشكلون الحلفاء الأفضل بالنسبة إلى عدد كبير من المطالبين بالتدخل، إلا أن هذا لا يقوّض الحجج التي يطرحونها.

أصاب الروائي روبين ياسين قصاب حين كتب في رسالة وجهها إلى مجلة London Review of Books أن من المقلق رؤية "شريحة كبيرة من اليسار تتبنى بتشدد الخطاب ذاته الذي رفضته خلال سنوات الحرب على الإرهاب: ان مؤامرات عن "الإرهابيين" وتنظيم القاعدة توضح كل المسائل".

إضافة إلى ذلك، يصب بعض اليساريين انتباههم على السلفيين المتطرفين الذين يسيطرون اليوم على أجزاء من سورية. ويستخلصون أن هذا البلد (وبالتالي السوريين، حسبما يُفترض) سيكون أفضل حالاً إن بقي تحت حكم بشار الأسد. كان هذا الطرح سيبدو منطقياً لو لم يكن الشيطان الذي يعرفونه متهماً بارتكاب جرائم شيطانية.

صحيح أن صفوف الثوار تضم عدداً من المتطرفين، وأن السوريين القاطنين في المناطق "المحررة" والذين وجدوا حياتهم فجأة رهينة متشددين يحملون السلاح يدركون هذا الواقع جيداً، لكن هذا لا يعني أن علينا رفض كل الثوار أو الاعتقاد أن حياة السوريين ستكون أفضل لو أن الانتفاضة لم تحدث.

يجب ألا يدفعنا اليأس، الذي يشعر به كثيرون عند رؤية سورية تُدمر وتُمزق إرباً إرباً، إلى طرح الفكرة الساذجة عن أن السوريين سيكونون أفضل حالاً لو أن أحداً لم يثُر ضد الأسد. فيمكننا أن نرحب بالبداية ونتأسف على ما آلت إليه في النهاية.

لاحظتُ مدى إخفاق البعض في رؤية التفاصيل الدقيقة لوضع بالغ التعقيد الأسبوع الماضي. فقد ذكرتُ في مقال سابق أن على السوريين التفكير في المستحيل واتخاذ القرار بشأن بقاء الأسد في السلطة خلال مرحلة انتقالية.

نتيجة لذلك، اتهمني البعض بخيانة الثورة السورية. وظنوا أنني أعتقد أن بقاء الأسد في السلطة أفضل من حالة الفوضى الراهنة. لكن هذا لم يكن طرحي. لا شك في أن صفقة تسمح للأسد بالبقاء في السلطة إلى ما لا نهاية تشكل خيانة للثورة السورية. حتى إنها تكافئ المسؤول الأول عن الحرب ضد المدنيين السوريين.

ولكن كما أن من المهم الإقرار بواقع بداية الانتفاضة (وبأن رد فعل نظام الأسد حوّلَ سلسلة من الانتفاضات السلمية إلى حرب أهلية، وبأن هذه لم تكن مؤامرة يقودها الغرب)، كذلك من المهم إدراك الوقائع الراهنة.

يزداد الأسد قوة. وتخسر المعارضة السياسية التي تتصدى له مكانتها، في حين تتراجع فرص تنفيذ تدخل خارجي.

في الوقت عينه، بدأت سورية تفقد شعبها. فعدد الأولاد الذين يهربون من منازلهم في سورية كل يوم يفوق عدد مَن يولدون في كل مستشفيات البلد. كذلك تخسر بنيتها التحتية. فقد تحولت المدن والبلدات، المدارس والمستشفيات، والطرقات والجسور إلى ركام وحطام.

علاوة على ذلك، باتت فكرة استمرار الصراع فترات مطولة واسعة الانتشار، ما يحضر الرأي العام العالمي لتقبل ملايين اللاجئين.

صحيح أن الحرب الأهلية الطويلة في سورية ليست محتمة، إلا أنها محتملة، خصوصا أن الإصرار على رحيل الأسد كشرط مسبق للمحادثات يبدو مطلبا غير منطقي.

لن يقبل داعمو النظام السوري في موسكو وطهران بفكرة الإطاحة بالأسد ونظامه بالكامل. وبما أن لا الدبلوماسية ولا القوة تدفعهم إلى التخلي عن موقفهم هذا، فمن الضروري أن نكون منطقيين وأن نقر بالواقع السياسي، خصوصاً عندما يتعلق هذا بحياة مئات الآلاف، وبمستقبل ملايين الناس، وباحتمال أن تبقى سورية دولة فاعلة، خصوصاً عندما يتخذ السوريون أنفسهم هذا القرار.

إذا كانت الجهود الدبلوماسية الدولية والسورية تهدف إلى وضع حد للصراع، يكون عندئذٍ السبيل الممكن للمضي قدماً (قد لا يكون الوحيد أو الأفضل) القبول ببقاء الأسد في السلطة فترة وجيزة.

من الأفضل بالتأكيد القبول بمرحلة انتقالية منظمة ومضبوطة تحرص على رحيله فيما لا يزال في سورية ما نستطيع إنقاذه. ولا شك في أن هذا الإنجاز الدبلوماسي لن يرضي كل الأطراف.

لكن التراجع والإصرار على رسم خطوط مستحيلة في الرمل في حين يواصل نظام الأسد القتال حتى النهاية سيوقع ملايين إضافيين فريسة المجاعة والمنفى. والسوريون وحدهم يستطيعون أن يقرروا ما إذا كان عقد صفقة مع الشيطان لإنقاذ سورية من الهاوية تستحق العناء.

* فيصل اليافعي | Faisal Al Yafai