مديحة يسري... سمراء النيل: مرسال الغرام وصلني في البلاتوه (20)

نشر في 18-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 18-07-2014 | 00:02
لم تتخيل مديحة أن صديقتها سميحة توفيق جاءتها {كمرسال غرام}، لم تتخيل امرأة القوس أن كبرياء فارسها منعه من البوح بحبه، فأرسل من ينوب عنه في تلك المهمة، صدمتها الفكرة ربما لأنها كانت ترسم ملامح أخرى لمشهد الاعتراف، كثير من الجرأة المغلفة بالرومانسية... ربما سيختار مقطعاً من إحدى أغنياته تحكي أشواقه ولهفته... ربما وربما... المؤكد أن {مرسال الغرام} فكرة لم تراودها أبداً، لم تخطر لها في بال، لم تكن حاضرة بأي تصور مهما أطلقت لخيالها العنان...

اجتهدت مديحة في ضبط إيقاع وجهها، كانت مهمومة ألا تلتقط صديقتها إحساسها بالصدمة أو بتوصيف أدق بـ {خيبة الأمل}.

سألتها مديحة: وهو بقى اللي طلب منك تيجي تسأليني أقبل أتجوزه ولا لأ؟

ضحكت سميحة قبل أن تتابع  قائلة: أمال يعني أنا اللي جيت أقولك الكلام ده من نفسي؟ الراجل عاوز يتجوزك قلت إيه؟

مديحة بتهكم: وهو مجاش يقول الكلام ده بنفسه ليه؟

سميحة: خايف يقولك ترفضيه، فيخسر علاقته بيك كصديقة؟

مديحة: ولما يوسطك مش خايف أني أرفض؟

ثم تابعت مديحة قائلة: ما أنا برضه لو رفضت أكيد علاقتنا كأصدقاء حتتأثر ومش حتنفع، يعني حيخسرني في كل الحالات.

سميحة باستنكار: يووه يا مديحة أنت حتعقدي الأمور كده ليه؟ الراجل طلب مني أجس نبضك فيها أيه دي.

مديحة بحسم: فيها إن اللي عاوز حاجة يجي يطلبها بنفسه.

بعدما حسمت صديقتها النقاش، لم تفهم مديحة سر غضبها، وهل أخطأت عندما قبلت المهمة واجتهدت أن تؤديها على أكمل وجه.

لحظات من الصمت مرت عليها حاولت خلالها سميحة أن تدير دفة الحوار إلى حكايات ونقاشات أخرى، وبمجرد أن هدأت أعادت فتح موضوع زواجها من فوزي مرة أخرى قائلة:

سميحة: على فكرة يا مديحة أنا لغاية دلوقت مش عارفة أنت زعلت قوي كده ليه، ده أنا صاحبتك يا ديحة وأفرح لك وأحب لك كل الخير.

مديحة: أنا عارفة طبعاً ومتأكدة أنه كان قصدك خير، بس مينفعش يا سميحة تـ...

قاطعتها قائلة: أنا كان هدفي أقرب بينكم، خصوصاً أنا متأكدة من أنك بتبادليه نفس المشاعر، كمان أنت مش واخدة بالك إن فوزي راجل {فلاح}، يعز عليه قوي أنه يطلبك وترفضي، فكان عاوزني بس أجس له النبض، ومع أني أكدت له أنك بتحبيه (ضحكت) وواقعة لشوشتك بس هو مصدقنيش.

مديحة: وأنت جايبه منين كل الثقة دي، إني بحبه وواقعة لشوشتي؟

تابعت سميحة ضحكاتها وهي تقول: ده أنا صاحبتك يا ديحة وعجناكي وخبزاكي وأقدر أحس بيك حتى لو كابرتي وأنكرتي، أنك بتحبيه، ده حبه مكلبش في قلبك، بس أنت مستكبرة تعترفي.

لم ترد مديحة وآثرت الصمت فيما تابعت سميحة ضحكاتها وتهكمها على صديقتها التي تأبى أن تعترف بمشاعرها، غير أنها، وقبل أن تنصرف، وعدتها سميحة بألا تخبر فوزي حقيقة ما حدث، فقط تؤكد له أنها لم تتمكن من لقاء مديحة لانشغالها.

وفعلاً نفذت سميحة ما طلبته منها صديقتها، لكنها راحت تنصح فوزي بأن {يجمد قلبه} ويفاتح محبوبته مباشرة ومن دون وساطات، مؤكدة له أن مديحة تحب الصراحة والوضوح ولن تقبل بغيرهما، وأن {الخط المستقيم} هو أقصر الطرق بين نقطتين، وأنها منذ شاركتهما فيلم {آه من الرجالة} استشعرت مع غيرها أنها تبادله نفس مشاعره، و... و...

اكتشاف

مع كل جرس للهاتف يرن في منزلها، كانت مديحة تتوقع أن يكون فوزي على الطرف الآخر يطلب لقاءها، حتى وهي في المسرح كانت تتوقع أن يزورها ليفاتحها في الاقتران بها، ولكن مرت الأيام بطيئة جداً، ولم يحضر فوزي، عرفت خلالها أنه بدأ التحضير لفيلمه الجديد {غرام راقصة}، مع صديقه حلمي رفلة، الذي شاركته بطولته صديقتها تحية كاريوكا ونور الهدى المطربة والممثلة اللبنانية التي أطلق عليها أم كلثوم لبنان، بعدما أعجب يوسف وهبي بصوتها، فنصحها بالمجيء إلى مصر، وفعلاً حضرت وأسندت إليها بطولة فيلم {جوهرة} أمام فريد الأطرش لتنتقل منه إلى أفق أكثر رحابة، فقدمت عشرات الأفلام مع أبرز نجوم المشهد آنذاك، إلا أنها مع نهاية الخمسينيات اعتزلت الغناء وعادت إلى بلادها.

حزمت مديحة أمرها وقررت أن تهنئ فوزي على فيلمه الجديد، فبينهما صداقة وعشرة طيبة لا يجب التضحية بها، وأن تتصرف كما كانت تفعل، وكأن شيئاً لم يحدث.

مديحة: يسعد مساك يا محمد... أخبارك إيه؟

رد فوزي بسعادة لم يخفها: أهلا أهلا مديحة، أنت اللي أخبارك إيه؟

مديحة: بخير الحمد لله، أنا قلت أبارك لك على فيلمك الجديد مع رفلة.

فوزي: الله يبارك فيك، أنا كمان سامع عنك كل خير، عرفت أنك حتدخلي فيلم جديد مع أنور وجدي.

تابعت مديحة حديثها لفوزي قائلة: والله يا محمد لسه مترددة.

فوزي منزعجاً: ليه خير، الدور مش عاجبك ولا إيه؟

مديحة: بالعكس بس يمكن لأن الفيلم بطلته طفلة صغيرة، صحيح بيقولوا إنها موهوبة جداً، بس أنا يمكن قلقانة لأني أول مرة أشتغل في فيلم بطلته طفلة.

فوزي: على كده بقى دورك صغير؟

مديحة: أنت عارفني يا محمد ميفرقش معايا حجم الدور طالما عاجبني.

فوزي: خلاص اتوكلي على الله ووافقي أنت عارفة أنور وجدي شاطر قد إيه، ومش ممكن يراهن على حصان مش كسبان، ده أنا سمعت أنه مضى عقد احتكار مع أبو البنت دي يدفع له ألف جنيه عن الفيلم.

مديحة باندهاش: يا خبر يا محمد!! ألف جنيه مرة واحدة؟ معقول أنور ممكن يدفع مبلغ زي ده لطفلة؟ دي أكيد معجزة بقى وأكيد هو ضامن حيكسب من وراها أضعاف المبلغ ده.

حسمت مديحة ترددها وكانت ثقتها في محلها بالنسبة إلى أنور وجدي  الذي يعد أحد أبرز نجوم السينما المصرية كممثل ومخرج ومنتج، بدأ حياته الفنية على خشبة المسرح وعمل لفترة في فرقة رمسيس المسرحية، قبل أن يتجه إلى السينما، واشتهر، في بداياته، بأداء دور الشاب الثري المستهتر، وفي عام 1945 أسس شركة للإنتاج السينمائي قدم من خلالها نحو 20 فيلماً، أشهرها سلسلة الأفلام التي أدى بطولتها مع ليلى مراد أبرزها {قلبي دليلي}، {عنبر}، {غزل البنات}... كذلك قدم الطفلة المعجزة {فيروز} في ثلاثة أفلام من إنتاجه هي: {ياسمين}، {فيروز هانم}، {دهب}، وكان {أربع بنات وضابط} (1954) آخر الأفلام التي أنتجها أنور، إذ تُوفي عام 1955 بعد رحلة مع المرض تاركاً ما يقرب من 70 فيلماً، اختيرت من بينها ستة أفلام صنفت ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، فهو لم يكن ليغامر بكل هذه الأموال لإنتاج فيلم من بطولة طفلة صغيرة، لولا ثقته في النجاح والأرباح التي سيحصدها.

 اسمها الحقيقي بيروز أرتين كالفايان، إلا أن مكتشفها أنور وجدي أطلق عليها لقب فيروز، وقد لقبت بالطفلة المعجزة، وشيرلي تمبل الشرق، رغم نجاحها في الغناء والاستعراض والتمثيل فإن عمرها الفني 10 سنوات فقط، إذ توقفت واعتزلت الفن بمجرد وصولها إلى مرحلة الشباب، وهي شقيقة الفنانة نيللي.

مفاجأة فوزي التي ألقاها على مديحة في ما يبدو حمستها لقبول الفيلم، الذي حقق إيرادات غير مسبوقة لم تتخيلها مديحة ولا أحد، وحده أنور وجدي صاحب الرهان كان واثقاً من نجاحه.

نجاح مديحة وأنور وجدي في {ياسمين} لفت أنظار المخرج هنري بركات، أحد أبرز وأغزر المخرجين المصريين إنتاجاً، قدم إلى المكتبة السينمائية المصرية أهم الأفلام أبرزها {الحرام}، و{ليلة القبض على فاطمة}، وقد حصل قبل رحيله (1997) على جائزة الدولة التقديرية في الفنون، فرشحهما معاً لفيلمه {أمير الانتقام} المأخوذ عن القصة العالمية {الكونت دي مونت كريستو} للكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس، وقد شارك في بطولة الفيلم كل من كمال الشناوي وسامية جمال.

الطريف أن بركات أعاد تقديم الفيلم نفسه عام 1964، ولكن مع أبطال مختلفين هم فريد شوقي ومحمود مرسي وشويكار.

حكيم عيون

كانت مديحة في حجرتها تراجع أحد مشاهدها في فيلم {ياسمين}، وإذا بها تسمع صيحة وضحكات يشارك فيها فريق العمل، وفجأة خيل إليها أن صوت محمد فوزي وسط الجلبة خارج حجرتها، وما هي إلا دقائق حتى فوجئت به يقف أمامها وبرفقته أنور وجدي، فهمت أنه بدأ تصوير أحد مشاهد فيلمه الجديد في مسرح قريب، وعندما علم بوجودهم قرر زيارتهم، وبالطبع رحبت مديحة بفوزي، وبدت واضحة سعادتها بتلك الزيارة التي انتظرتها طويلا.

تبادلوا {القفشات} والضحكات فبل أن يستأذن وجدي للانصراف لتجهيز المشهد التالي مؤكداً بصوته الجهوري:

- {البيت بيتك بقى وأنت مش غريب... خليك مع مديحة ما أنتم أصحاب (ضاحكا)  بس أوعَ تأخرها... أنت منتج وعارف اليوم واقف عليَّ بكام؟}.

كان وجدي بالفعل شخصاً عملياً، ومعروف عنه حرصه الشديد.

لحظة صمت مرت عليهما قبل أن يقطعها فوزي قائلا بصوت خافت لا يخلو من شجن:

-  وحشتيني يا مديحة...

ارتبكت مديحة، ولم تعرف بماذا ترد، فهذه المرة الأولى التي يحدثها فوزي على هذا النحو، ورغم أنها في الأيام السابقة راحت تتخيل كيف سيصارحها بحبه، وتبدل وتعدل بخيالها وبما يتوافق والسيناريو الأنسب والمحبب لها، فإنها لم تتصور أن الواقع سيكون أروع من الخيال.

تابع قائلا: ساكتة ليه يا مديحة؟

ردت بخجل وارتباك لا يخلو من شجن: حأقول إيه؟

تابع هجومه بشراسة: تقولي اللي عينك بتقوله؟

فأشاحت بوجهها بعيداً وهي تقول: وعيني بقى بتقول إيه؟

فوجئت به يرد مغنياً لها: متعرفيش أني حكيم عيون أفهم في العين، وأفهم كمان في رموش العين، أعرف هواهم ساكن فين، وأعرف دواهم يجي منين...

ضحكت مديحة وقالت: يا سلام ده إيه ده كل ده، باين عليك رايق قوي النهارده.

قاطعها قائلا: طبعاً مش علشان شفتك؟

ردت: طيب ما أنت بتشوفني علطول مش بتكون رايق كده ليه؟

فوزي بحسم: خلاص أوعدك كل ما حتشوفيني حابقى رايق كده، أنت بس خليني أشوفك كل يوم.

قالها وهو يهم بالجلوس إلى جوارها على الأريكة، كان يقترب منها ما دفعها لأن تعدل من جلستها كي تفسح له مكاناً بعيداً عنها.

مديحة: أنت مالك بجد النهاردة.

جذب وجهها ناحيته ونظر في عينيها قائلا: بحبك يا مديحة ومش قادر أخبيها أكتر من كده، تتجوزيني؟

كانت دقات قلبها تتصاعد بعنف لدرجة خشيت أن يسمعها، فيما حلقت مع كلماته لعنان السماء وإن التزمت الصمت.

تابع: مش بتردي ليه؟ بيقولوا السكوت علامة الرضا.

استجمعت نفسها وأخذت نفساً عميقاً وبهدوء قالت: اسمع يا محمد أنا طبعا يسعدني ويشرفني طلبك و...

قاطعها: أمال إيه الموضوع؟

ردت بحسم: موافقة نتخطب والجواز بعد سنة.

باندهاش رد: ليه؟ هو إحنا لسه حنتعرف على بعض؟

بتصميم ردت: مقصدش... بس إحنا فعلا محتاجين وقت علشان نتأكد من مشاعرنا، صحيح نعرف بعض كأصدقاء بس برضه خلينا مخطوبين فترة كده حتى نضبط أمورنا، أنت تخلص التزاماتك وأنا كمان.

حاول فوزي أن يقنع مديحة بأن تختصر مرحلة الخطوبة لبضعة أشهر، إلا أنه أمام إصرارها قبل على أمل أن تبرهن لها الأيام حبه وإخلاصه لها.

وبعد هذا اللقاء بأيام وفي حفلة بسيطة حضرها الأهل وأقرب أصدقاء الطرفين، تمت خطبة مديحة لفوزي، تتويجا لقصة حب لم تفاجئ الجميع.

ومن جانبه حرص فوزي على إثبات حبه لها في كل مناسبة، فكثيرا ما فاجأها بالزيارة في البلاتوه معه الورود وأحيانا الهدايا، وفي العطلات الأسبوعية كان يصطحبها إلى أي مكان تحبه لمعرفته بأنها تعشق الرحلات والسفر.

باختصار حاصرها فوزي بحبه، من جانبها لم تملك إلا أن ترفع الراية البيضاء.

كانت مديحة يسري في تلك الفترة مشغولة بتصوير فيلمي {أمير الانتقام} و{أولاد الشوارع} مع أستاذها يوسف وهبي، لم تكن في منزلها إلا خلال ساعات النوم، كانت تتنقل بين البلاتوهات لإنجاز أعمالها التي تعاقدت عليها، ولأكثر من شهرين لم تلتق فوزي إلا بشكل عابر، ما أثار حفظيته.

ورغم أن فوزي كان أيضاً مشغولا بتصوير فيلمه {الزوجة السابعة} مع ماري كويني، ممثلة ومنتجة من أصل لبناني تزوجت المخرج أحمد جلال وكونا معا شركة إنتاج سينمائي، وتقاسما العمل، فكان يؤلف ويخرج وتساعده هي في صياغة السيناريو والمونتاج والتمثيل إلى جانب إشرافها على الإنتاج، وقد أنجبا ابنهما الوحيد نادر الذي سار على الدرب نفسه، وبات أحد أبرز مخرجي السينما، وكذلك ابنه أحمد نادر جلال الذي رفع راية عائلة جلال وكويني الفنية.

أشواق الحب وإحساسه بانشغال خطيبته عنه دفعا فوزي إلى أن يعبر عن سخطه، فهو رجل {ريفي} نشأ في مجتمع لا يرحب بعمل المرأة عموماً وفي الفن خصوصاً، فقاطع شقيقته الفنانة هدى سلطان لإصرارها على احتراف الفن، وظل على قطيعته لها حتى بعد زواجها من فريد شوقي.

كان فوزي، كما هو معروف عنه، رجلاً على طبيعته لا يخفي ما في داخله ويتعامل بشكل طبيعي مع من حوله.

- مديحة أنت مش شايفة أن التمثيل والبيت هيبقوا مجهود زيادة عليك شوية؟

مديحة: لا ما تقلقش أنا بعرف أنظم وقتي كويس ومش هسمح أبداً أن بيتي يتأثر بشغلي ودائماً البيت ليه الأولوية.

فوزي: يعني عمرك ما تفكري تقعدي في البيت...

لحظة صمت مرت قبل أن ترد مديحة...

البقية في الحلقة المقبلة

back to top