من مزايا الحياة الدبلوماسية أنها تضعك في بعض الأحيان في مواجهة مع مواقف تجعلك في حيرة من كيفية التعامل معها، فأنت لا تمثل شخصك بقدر تمثيلك لبلدك وقيادته، ومن هذا المنطلق يأتي الحرص في القول والعمل الذي يفرضه الواجب على الدبلوماسي.

Ad

وفي اعتقادي أن الدبلوماسية الكويتية قد مرت بظروف لم تمر بها أي دبلوماسية أخرى بالعالم في مواجهة عدوان واحتلال غاشم قام بتدمير كل مقومات الدولة وحاول طمسها من خارطة العالم، وقد ألقى هذا الفعل الغاشم على كاهل الدبلوماسية الكويتية في كل أنحاء الدنيا أعباءً لم تكن تخطر على البال أو تجول في الخاطر. واستطاعت سفينة الدبلوماسية الكويتية أن تبحر في أمواج عاتية كالجبال، وكان النواخذة في ذلك الوقت سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، حفظه الله ورعاه، حيث كان يتولى منصب وزير الخارجية، فتعلمنا من سموه القدرة على التحرك والعمل لحشد الدعم للوطن لعودة الحرية والنور لأرض الحرية والنور الكويت الغالية.

من المزايا التي تتيحها الحياة الدبلوماسية للدبلوماسي ذلك المجال الواسع للتعرف على الكثير من الشخصيات مختلفي المشارب والاتجاهات، وما يخطر على البال من تلك الحياة الدبلوماسية التي عشتها على مدى أكثر من 37 عاماً وعلى نطاق العالم، بعض من ذكرياتي، ففي أمسية أحد الأيام من صيف عام 2004، وأثناء عملي سفيراً لبلدي في الأردن الشقيق تلقيت مكالمة هاتفية من الأخ العزيز عطاالله خيري سفير فلسطين في الأردن الذي أبلغني بأن السيد ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية يرغب في الاتصال معي هاتفياً بعد ساعة من الآن، وكان الوقت يقارب الخامسة مساء.

فوجئت بهذا الاتصال وذلك الطلب، فلم تكن العلاقات قد عادت بين الكويت والسلطة الفلسطينية التي لم يكن موقفها ودياً تجاه الكويت وذلك بتأييد الغزو والاحتلال الغاشم، طلبت من السفير مهلة من الوقت للحصول على موافقة المسؤولين في الكويت، بعد الاتصال جاءت الموافقة على تلقي المكالمة، وعليه فقد أبلغت السفير بتلك الموافقة فأفادني بأن الاتصال سيتم بعد ربع ساعة من ذلك الوقت، وعليه فقد وضعت الهاتف النقال أمامي وجلست في حديقة منزلي، وفي الوقت المحدد تمت المكالمة مع الرئيس ياسر عرفات واستمرت ما يقارب نصف ساعة تقريباً، أما ما دار فيها فلست في حل من نشره.

في أثناء رئاستي للبعثة الدبلوماسية في الجزائر الشقيقة كان من أعز الأصدقاء الأستاذ محمد الميلي وزير التربية والتعليم، وعلاقتي بالأستاذ محمد بدأت منذ التقينا في اليونان عندما كان يتولى رئاسة البعثة الجزائرية، وكنت وقتها أتولى منصب الشخص الثاني في سفارتنا هناك.

من أبرز صفات الأستاذ الميلي عشقه للثورة الجزائرية التي كان عضواً فيها وراوياً لبعض أحداثها، ومن بعض ما رواه لي أن الحاكم العسكري الفرنسي لمدينة الجزائر أثناء الاحتلال أصدر أمراً يقضي بأن السلطات العسكرية الحاكمة ستقوم بهدم كل منزل تجد فيه نسخة من القرآن الكريم.

في اليوم التالي فوجئ الحاكم العسكري أن أغلب سكان المدينة قد نزل إلى الأسواق لشراء نسخ من القرآن الكريم لوضعها في صدر المنزل في تحدٍ قوي لذلك الأمر أو القرار، فإذا أراد الحاكم تطبيق ذلك القرار فعليه أن يقوم بهدم كل بيوت المدينة، مما اضطره إلى إلغاء ذلك الأمر.

في رواية أخرى أفاد الأستاذ الميلي بأن إحدى الجمعيات التبشيرية الفرنسية وتدعى "ذات الرداء الأبيض" اتخذت إحدى القرى الجزائرية مجالاً لنشاطها التبشيري، وقامت بتقديم كل أنواع المساعدات والدعم لأهل القرية، ومع الوقت أصبح التردد على الكنيسة عادة شبه يومية، وعندما أيقنت رئيسة البعثة بقرب أهل القرية منهم دعتهم إلى اجتماع عام وطلبت معرفة رأيهم بالبعثة وعضواتها وما تقدمه لهن من خدمات، فقامت إحدى المسنات من نساء القرية وبعفوية أشادت بالبعثة وما تقوم به، وأضافت قائلة إنكم تتمتعون بكل الصفات الحميدة؛ لذلك فإننا نتمنى من كل قلوبنا أن "تدخلوا إلى الإسلام" لتكتمل صفاتكم الحسنة... نظرت رئيسة البعثة إلى زميلاتها وطلبت منهن تجهيز أنفسهن للمغادرة، وفي اليوم التالي غادرت البعثة القرية، هذه بعض من ذكريات أوردناها لتسجيل بعض الأحداث.

دعاؤنا دائماً إلى العلي القدير أن يحفظ الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.