كتاب {فتاوى كبار الكتاب والأدباء في مستقبل اللغة العربية في نهضة الشرق العربي وموقفه إزاء المدنية الغربية} الذي صدر في طبعته الأولى عن منشورات {الهلال} في مصر في العشرينيات من القرن الماضي، يتضمن مقالات لطائفة من صفوة الكتاب والأدباء والمستشرقين ممن يهتمون بأمر اللغة العربية ومستقبلها من بينهم: خليل مطران، محمد كرد علي، جبر ضومط، سليم سركيس، نقولا حداد، جبران خليل جبران، مصطفى صادق الرافعي، سلامة موسى، ميخائيل نعيمة، طه حسين، معروف الرصافي، غويدي ووليم ورل}... وكان الهدف من الكتاب في طبعته الأولى التأمل في تأثير التطور العام في اللغة العربية، والإحاطة بموقف الشرق العربي الناهض إزاء المدنية الغربية الحديثة، وما يجدر أن يقتبس منها، غير ذلك من مسائل خطيرة تشغل أذهان المفكرين.

Ad

والأسئلة التي طرحت في الماضي، ما زالت كما هي الآن، فضلاً عن تحوّل كبير في اللغات العالمية أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، وتكاد تحطم جوهر اللغة وتنتج لغة هينة فيها الكثير من الالتباس.

استجابة للتحديات

يعتبر سعيد بنكراد في مقدمته أن الكتاب يتحدث عن اللغة والتمدن عموماً وعن حال اللغة العربية في العشرينيات من القرن الماضي تحديداً، عن قدرة اللغة العربية أو عجزها عن الاستجابة لتحديات العصر العلمية والفكرية عموماً، وعن قدرتها على التقاط التحولات التي لحقت بنمط العيش، وما أفرزت من حاجات جديدة في السياسة والاجتماع.... فقيمة الكلام الإنساني ليست مودعة في موروث قدسي ثابت لا ينال منه الزمن، رغم أهمية هذا الموروث في بناء الهوية وغناها، بل يجب تلمسها في قدرة هذا الكلام على تجديد النظر والفكر داخله، وفي قدرته على تغطية ما يتم اكتشافه من تجديد النظر والفكر داخله، وفي قدرته على تغطية ما يتم اكتشافه من مناطق وأشياء في الذات وفي الوجود. ذلك أن طبيعة المدنية الحديثة لا تدعو إلى {تحصين} الذات بما يفتي بانزوائها داخل زمنية تتحرك خارج التاريخ الكوني، بل تقتضي تأهيلها بما يمكنها من استيعاب ما يأتيها من خارجها استناداً إلى ممكنات اللغة وخصوصية ما أنتجته من إرث حضاري داخلها.

يتابع بنكراد، لقد تحدثوا أيضاً عن علاقة الفصيح بالدارج، فثمة خطر يمثله {التلهيج} المتزايد للحياة العامة والحياة الخاصة. ولن يقود {التلهيج}، في عرف كثيرين من هؤلاء، وفي عرف نظرائهم المعاصرين أيضاً، إلا إلى التقليص من الطاقة التعبيرية التي تتوافر عليها اللغة العربية في طابعها الأدبي الراقي، أو إلى التشويش على المعاجم العلمية المتخصصة باعتبارها لغة خاصة بالعلماء ولا دخل {للشعب} فيها. فهذه اللهجات لم تكن في كل الحالات تعبيراً عن ميل {اقتصادي} تقتضيه ديناميكية الممارسة الحياتية (بلورة ما أطلق عليها قديماً وحديثاً {اللغة الثالثة})، بل هو إفراز من إفرازات احتكاك المواطن العربي بلغات أخرى ضمن شروط تبعية ثقافية صريحة أو ضمنية، أو هو في الغالب الأعم حاصل انتشار الأمية وتفشيها في أوساط الشعب.

والحاصل من ذلك كله، أن ثمة ما يشبه الإجماع في الماضي والحاضر، رغم اختلاف شروط {النظر} وتطورها، على تراجع العربية في الاستعمالات كافة وتخليها عن مواقعها في الحياة العامة، فقد خرجت، أو أُخرجت، من الشارع والمنزل والحوار اليومي، وتخلت عن دورها في تدبير قطاعات المال والأعمال والتربية والتعليم، بل أصبحت هامشية في قطاعات مركزية كالإعلام المرئي. ثمة موازين قوى جديدة أفرزها تخلف الأقطار العربية اقتصادياً وسياسياً، كما ساهمت فيها حالات التمازج والتداخل بين الشعوب والثقافات. وأفرزها الإيقاع الجديد للحياة الذي جاء به الغزو الأجنبي قديماً، وعملت على توسيعه ونشره الوسائط الجديدة حديثاً. فقد حدت هذه الوسائط، في واقع الأمر، من سلطان كل اللغات. فكلما ازداد نفوذها تراجع دور اللغة لصالح تواصل {تخطيطي} يكتفي {برسم} العواطف من دون التعبير عنها.

إنتاج المعرفة

يشير بنكراد إلى أن اللغة العربية، قد تكون، في مطلق الأحكام الأدبية والعلمية، مالكة للمقومات كافة التي تجعلها قادرة على إنتاج المعرفة وتداولها، فلا شيء فيها وفي الواقع يمكن أن يحد من قدرتها على ولوج عالم المعرفة والاستئناس بمصطلحاته ومفاهيمه، فموروثها الفلسفي والأدبي والعلمي واسع جداً، وإمكاناتها كبيرة في تغطية كل مناطق الوجود الإنساني الطبيعي، وهي ليست لغة معيش يومي يشكو من خصائص في المفاهيم، وليست لغة شفهية تحتفي بالانفعال أكثر من احتفائها بالتحليل المنطقي. ففي تراثها المكتوب من {العتاد المفهومي والمصطلحي} ما يمكنها من استيعاب معطيات العلم الحديث في كل فروعه. وهو أمر يؤكده حوارها الذي لم ينقطع أبداً مع اللغات كافة. ويؤكده أيضاً الانتقال السلس لكثير من المفاهيم العلمية إلى معجمها واستيطانه ذاكرتها. بل إن كثيراً من مفاهيم العلوم الحديثة مستعارة من العربية نفسها.

يضيف بنكراد، أن الأمر لا يتعلق، بطبيعة الحال، بقصور ذاتي، كما يروج لذلك المعادون لها في كثير من الحالات، هؤلاء الذين يسميهم جبران خليل جبران في الكتاب {سفراء الدول التي يتكلمون لغاتها}، بل هو حاصل انقضاء قصدي بحكم الهيمنة الاستعمارية قديماً، أو بحكم النفوذ الثقافي والاقتصادي الأجنبي، أو هو حاصل اللهاث وراء {نماذج حضارية} جاهزة، لا تكلف مؤسسات الدولة كثيراً من المال والجهد والطاقات البشرية. فيكفي أن نستورد {الوصفات} التامة، فيما يشبه {التمائم والتعويذات} بلغاتها الأصلية كي نحل معضلة النمو الاقتصادي والتقني، وننتشي باستنبات هجين لمظاهر التحديث في حياتنا. والحال أن ما لا يدركه كثيرون، أو يتجاهلونه عن قصد، أن ما سيوضع للتداول في هذه الحالة هو مجموعة من الآلات الباردة التي يمكن التخلص منها دون أن يختل وجود الحامل لها، أو يتغير وضعه الحضاري.

ويستنج مقدم الكتاب {أننا لن نعيد للغة العربية بهاءها ودورها الفعلي في المجتمع بتأسيس المجامع اللغوية وتكوين النحويين والبلاغيين وجهابذة اللغة. علينا أن نفعل ذلك من خلال إعادتها الى الشارع، إلى وجهات المتاجر وإلى الحدث اليومي.