لدى فرنسا تاريخ طويل من وعود الحكومات بالإصلاح وإخفاقها في تحقيق ما تعد به. والسؤال الآن: هل باستطاعة هولاند في النهاية إعادة تنشيط حظوظ البلاد واستعادة شعبيته في السنوات الثلاث التي لاتزال أمامه في المنصب؟

Ad

فرانسوا واتران ذو الشعر الفضي، وابنه البدين هنري بيير، اللذان يمتلكان مصنعاً لنشر الأخشاب شمالي فرنسا، بعيدان عن علية القوم الذين يضغطون على الرئيس فرانسوا هولاند من أجل إصلاح اقتصاد معتل تَسبب أداؤه الفاتر في إثارة قلق كبير لدى الشركاء الأوروبيين لفرنسا.

لكن قصة هذه الشركة العائلية التي هي الآن في جيلها الخامس في لوران تحمل إلى حد كبير الرسالة نفسها، في الوقت الذي يعمل فيه هولاند على علاج مرض فرنسي عميق – وإنقاذ رئاسته من أدنى مستويات التأييد الشعبي منذ الحرب العالمية الثانية.

وبحلول عصر الاثنين، خيم الصمت على مصنع نشر الأخشاب المملوك لعائلة واتران في قرية بوكلير.

ويقول هنري بيير، وهو يهز كتفيه، إن نظام العمل الإلزامي لمدة 35 ساعة أسبوعياً يعني إرسال فريق عمل مكون من 14 شخصاً إلى بيوتهم في وقت مبكر من أجل عطلة نهاية الأسبوع.

وتبيع الشركة خشب الزان لشركات تصنيع الأثاث، وقد تعافت من هبوط بنسبة 20 في المئة في المبيعات حين جفت الصادرات إلى إسبانيا التي ضربتها الأزمة في 2009. لكن المبيعات السنوية البالغة 1.8 مليون يورو لم تشهد زيادة تذكر، ويعود ذلك جزئياً إلى المنافسة من ألمانيا، حيث تكاليف الأجور أقل.

ولاتزال الصين تمثل تهديداً أكبر. يقول واتران الأب: "كثير من الخشب الفرنسي يذهب مباشرة إلى الصين على شكل وزن معادِل في سفن الحاويات العائدة، ويعود إلى فرنسا على شكل أثاث يكلف أقل من تكاليف تصنيعه هنا".

ومنذ 2006 استثمرت الشركة ثلاثة ملايين يورو في معدات جديدة، لكنها لا تقوم بزيادة عدد الموظفين. ويقول هنري بيير: "هوامش أرباحنا ضعيفة للغاية. لقد استثمرنا بالدرجة الأولى في الإنتاجية وكفاءة الطاقة. والهدف من ذلك جزئياً هو أن نتجنب استبدال الشخصين اللذين سيأتي الدور عليهما للتقاعد وتقليص تكاليف الأجور".

وتجربة الشركات التي من قبيل واتران، التي تتكرر في مختلف أنحاء فرنسا، هي التي دفعت هولاند للتحرك في يناير الماضي.

فبعد أن شعر بلسعة إخفاقه في الوفاء بتعهده بإحداث انقلاب في صعود لا يرحم في معدل البطالة بنهاية السنة الماضية، أطلق مبادرة في السياسة الاقتصادية تتبنى أجندة مساندة للشركات.

واعترف بأنه "ليس لدينا وقت نضيعه" من أجل تعزيز الانتعاش الضعيف، وبالتالي وعد بتقليص الرسوم الاجتماعية العالية المفروضة على أصحاب العمل، وتقليص فاتورة الإنفاق العام الضخمة في فرنسا من أجل السماح بالإعفاءات الضريبية والتصدي للأعداد الكبيرة المتشابكة من القواعد والأنظمة التي تعرقل حركة الشركات.

و"ميثاق المسؤولية" المذكور مع الشركات ربما جاء بعد فوات الأوان، وبالتالي قد لا يكون قادراً على التقليص من انعكاس ثقيل متوقع في التأييد لحزب هولاند الاشتراكي الحاكم، في الانتخابات المحلية في نهاية هذا الشهر.

ولأن مستويات تأييد هولاند هي الآن عند مستوى في حدود 20 في المئة، فإن صدقيته كمصلح قد تعرضت للضرر.

وقد أمضى سنته الأولى في المنصب في رفع الضرائب بواقع 30 مليار يورو، مما أثار سخط الشركات، في الوقت الذي جرى فيه تفويت الأهداف في المالية العامة.

وكانت هناك إصلاحات متواضعة في سوق العمل ونظام التقاعد، واعترف بأن الحكومة قللت من تقدير نطاق الأزمة التي تواجه البلاد.

وظهرت الأسبوع الماضي فضيحة جديدة حول طريقة الحكومة في التعامل مع التسريبات التي تقول إن هاتف نيكولا ساركوزي، رئيس الجمهورية السابق، كان خاضعاً لمراقبة الشرطة، مما أضاف تشتيتاً آخر عن محاولة هولاند التركيز على الاقتصاد.

ولدى فرنسا تاريخ طويل من وعود الحكومات بالإصلاح وإخفاقها في تحقيق ما تعد به. والسؤال الآن ما إذا كان باستطاعة هولاند في النهاية إعادة تنشيط حظوظ البلاد واستعادة شعبيته في السنوات الثلاث التي لاتزال أمامه في المنصب.

وفي الأسابيع الأخيرة كان هناك عدد لا يحصى من التنبيهات حول حالة الاقتصاد الفرنسي.

ففي مقابلة مع صحيفة "لو فيغارو" هذا الشهر قال بيير جاتاز، رئيس اتحاد أصحاب العمل (ميديف): "فرنسا تمر في أزمة، وهي على حافة الهاوية. اقتصادنا لا يعاود الانطلاق، ولا توجد علامة على التحسن. أشعر بقدر عظيم من القلق لدى جميع أصحاب المشاريع".

ووضعت المفوضية الأوروبية، التي هي الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، فرنسا تحت "مراقبة محددة"، وبررت ذلك بانحدار طويل الأمد في قدرتها التنافسية والمستوى العالي من الدين العام.

وقالت: "الحاجة إلى إجراءات حاسمة مهمة بصورة خاصة، بالنظر إلى حجم الاقتصاد الفرنسي والتداعيات المحتملة على عمل منطقة اليورو".

وأحد مصادر القلق أن فرنسا تعاني "نزيف أدمغة" بين أصحاب المشاريع الشباب والعمال المهرة الذين يغادرون البلاد بحثاً عن حظوظهم في الخارج بسبب الافتقار إلى الفرص في الداخل.

وأظهرت دراسة أجرتها غرفة تجارة منطقة باريس، نشرت الأسبوع الماضي، أن نسبة الخريجين الساعين إلى التوظيف خارج فرنسا ارتفعت إلى الضعف، لتصل إلى 27 في المئة في السنتين الماضيتين.

وقال رجل أعمال فرنسي يعمل في العاصمة البريطانية: "إنهم يأتون إلى لندن زرافات ووحداناً، مثل اللاجئين".

وفي الوقت الذي ينطلق فيه الانتعاش في البلدان المجاورة، مثل بريطانيا وإسبانيا، تظل فرنسا عالقة بعدد من المشاكل التي أثارت قلق علماء الاقتصاد وصناع السياسة.

وحذر كل من بروكسل وجهاز تدقيق الحسابات في فرنسا من أن باريس ستعاني ضغطا كبيرا في سبيل الوفاء بالهدف الذي حدده الاتحاد الأوروبي، الذي تأخر عن موعده أصلاً، المتمثل في تقليص العجز في الميزانية إلى 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2015.

ووفقاً للمفوضية فان هذا يجعل الدين العام فوق مستوى 97 في المئة من الناتج في السنة المقبلة، وهو ما يقارب المستوى الذي أثار مخاوف كبيرة أثناء أزمة السندات السيادية في منطقة اليورو.

ومن أجل تثبيت الديون وإفساح المجال أمام الاقتطاعات الضريبية، وعد هولاند بتوفير في الإنفاق العام يزيد على 50 مليار يورو – أي في حدود 2.5 في المئة من الناتج – على مدى السنوات الثلاث المقبلة، إضافة إلى مبلغ 15 مليار يورو هذا العام.

وهذا رقم غير مسبوق بالنسبة إلى بلد لم يستطع الحصول على ميزانية متوازنة منذ السبعينيات في القرن الماضي، رغم أنه بالمعدلات الحقيقية يمثل تباطؤاً في الإنفاق، وليس اقتطاعاً.

ومن المتوقع أن يكون النمو في حدود 1 في المئة هذا العام، وهو يقل كثيراً عن المستوى اللازم لتقليص معدلات معقولة في البطالة التي تتجاوز 10 في المئة.

على بعد بضعة كيلومترات من بوكلير، في بلدة ستيناي، استطاع فرانسوا ريكتر المحافظة على شركته "ستيفيل" لتصنيع الأسلاك الفولاذية بالتحول من التوريد لشركات تصنيع السيارات إلى تصنيع أكشاك عرض للمعلنين وشركات التجزئة.

ولا يرى ريكتر علامة تذكر على الانتعاش، وليست لديه خطط لإضافة موظفين آخرين زيادة على الموظفين الأربعة العاملين لديه حالياً. ويقول: "سأوظف المزيد إذا لم يتخذ زبائني قرارات في اللحظة الأخيرة. كان سجل الطلبات لدي يمتد إلى ستة أسابيع، أما الآن فهو عشرة أيام". وهو غير مقتنع بوعد هولاند بإجراء تخفيض في تكاليف اليد العاملة. ويقول: "أولويتي الإبقاء على ما لديّ من موظفين في الوقت الحاضر، وليس توظيف المزيد".

لكن ربما تكون بعض النذر على حالة الاقتصاد الفرنسي مبالِغة في الزعيق. فقد عادت فرنسا، قبل بريطانيا، إلى مستويات الناتج التي كانت سائدة قبل الأزمة.

وأقرت المفوضية الأوروبية بما وصفته بـ"المتانة غير المتوقعة" للنمو الفرنسي في 2013، حين كان معدل النمو في الربع الرابع، وهو 0.3 في المئة، أدنى قليلاً من معدل نمو ألمانيا، المحرك الاقتصادي الكبير.

وتظل البطالة التي هي في حالة انخفاض الآن، أدنى من متوسط منطقة اليورو. والعجز في الميزانية، الذي تشير التقديرات إلى أنه بلغ 4.2 في المئة في السنة الماضية، أدنى بصورة مريحة من بريطانيا وإسبانيا.

وتشير أحدث المؤشرات من Insee، المعهد الوطني للإحصائيات، إلى أن الاستثمار والتصنيع يشهدان انتعاشا.

والاستهلاك الخاص، وهو المحرك الرئيسي التقليدي للاقتصاد، صامد حتى الآن، والمعدل العالي للمدخرات في فرنسا يعني أنها لا تعاني مشكلة في مديونية القطاع الخاص.

ويقول دنيس فيران، مدير مركز الأبحاث Coe-Rexecode: "تستطيع فرنسا، بما لديها من إنفاق كبير من الدولة، أن تصمد بصورة جيدة في أيام الأزمة. الجانب الآخر من المعادلة هو أنها تحقق التعافي بصورة أبطأ من البلدان الأخرى".

لسنوات عديدة تعمل هذه المقاومة والتثاقل أمام الطفرة والانهيار من النوع الذي تمر به البلدان الأوروبية الأخرى – واقتران ذلك بمقاومة سياسية محلية عميقة للتغير –على إضعاف أثر التحذيرات المتكررة التي تقول إن فرنسا لا بد أن تقف في وجه الخسارة الكامنة للقدرة التنافسية التي تعتبر نذيراً سيئاً على المدى الطويل.

(فايننشال تايمز)

هل فهم فرانسوا الرسالة؟

يقول جوزيف أوجورليان، الشريك المنتدب لدى شركة أمبر كابيتال لاستثمارات الأسهم، انه متأكد بنوع من الاستياء من التحول في السياسة الاقتصادية لدى فرانسوا هولاند.

واوضح اوجورليان: "أعتقد أن الأمور ستستقر. فهِم هولاند الرسالة. على الأقل سيحاول التوقف عن تدمير الأشياء، وهو دمار ضخم". ويضيف: "باعتبارك مستثمراً، هذا أفضل شيء تستطيع أن تتوقعه من الحكومة".

لكن سيتعين على الرئيس أن يفعل ما هو أكثر من إقناع مجتمع الأعمال بأن التغيرات الهيكلية الحقيقية هي الآن قيد التنفيذ، وهو ما يمكن أن يعيد الثقة بالاقتصاد.

هناك تركيز كبير على وعده بإزاحة 30 مليار يورو من رسوم التوظيف عن عاتق الشركات بحلول 2017. وحتى الآن تم توجيه 20 مليار يورو خلال امتيازات ضريبية موجهة نحو أصحاب الرواتب الأدنى.

ويقول فيران إن من المهم تماماً عدم التركيز على المزيد من الاقتطاعات في رسوم اليد العاملة من أصحاب الرواتب الأدنى، نظراً لحاجة فرنسا الماسة إلى تعزيز القدرة التنافسية لشركات التصدير التي تدفع في معظمها رواتب عالية. ويقول: "يجب علينا ألا نضحي بالتوظيف ذي القيمة العالية في الغد، مقابل الوظائف التي لا تتطلب مهارة في الوقت الحاضر. لكن الخطر هو أن من الممكن ألا نحصل على هذا ولا ذاك".

من جانبه، يقول اتحاد ميديف إن فرنسا تحتاج إلى اقتطاع بقيمة 50 مليار يورو من الرسوم الاجتماعية و50 مليار يورو أخرى من الضرائب، من أجل الإقفال التام للفجوة التنافسية مع ألمانيا.

كذلك تطالب الشركات بقوة بإجراء إصلاحات عميقة في قانون العمل الذي يقع في ثلاثة آلاف صفحة ويفرض قيوداً شديدة، وهو ما يثبط الشركات عن التوظيف. وتنادي بروكسل بالحاجة إلى فتح الأسواق المقيدة، في النقل والطاقة الخدمات الأخرى.

لكن هولاند يسير بحذر في هذه المجالات، خشية استثارة الاحتجاجات. ويبدو أنه لا يوجد حديث عن تغيير أسبوع العمل الذي يبلغ طوله 35 ساعة. ويلاحظ فيليبون أن الاختبار الحاسم سيكون حول الإنفاق العام الذي كان يرتفع بصورة مطردة على مدى العقود الماضية حتى وصل إلى 56 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

ويقول: "إذا أصبح من الواضح أن هناك انقطاعاً واضحاً في الاتجاه العام وتراجعت حصة الإنفاق العام في الاقتصاد، فهذا سيرسل رسالة قوية".