ظلت مسرحياتُ شكسبير عصيةً على قراءتي، حتى وقعتُ على سلسلة تعيد نصها الشعري في صياغة حديثة. والسلسلة حريصة على إبقاء النص الأصلي مُرفقاً، كنت أطمئن إلى المعنى وافياً، ثم أنصرف بثقة إلى الأصل. وكأني بذلك أقرأ الشاعر الجاهلي ذا الرمّة، بعد أن استوفيت معرفة مفردات قاموسه الشعري، هذا يحدث مع اللغة القديمة، أيِّ لغة كانت. ولكني لم أحاول ذلك مع «سونيتات» شكسبير التي كانت متوافرة ومغرية، لسبب أجهله. فأنا أعود إلى ما اشتهر منها بين الحين والحين. ولذلك جاء مشروع الدكتور عبد الواحد لؤلؤة مع السونيتات، ويفضل تسميتها بـ«الغنائيات»، أشبه بسياحة مجانية إلى جزر السحر: النص الأصلي، الترجمة العربية والمقالات القصيرة التي تلاحق كلَّ «غنائية» بالشرح والتنويع على الثيمات الرئيسية (دار «كلمة» التابعة لهيئة السياحة والثقافة، أبوظبي).

Ad

    إن من يألف موقع «اليوتيوب»، كما آلف، يستطيع أن يلاحق هذه «السونيتات» واحدة تلو الأخرى، تُقرأ بأصوات مُختصة بقراءة الشعر، أو تُدرس نقدياً، أو توضع في ألحان موسيقية.

ولقد فعلت ذلك، ومازلت أفعل، منتفعاً من ترجمة الدكتور لؤلؤة، التي قد لا تنتصر للصياغة الشعرية في العربية على حساب التقاط المعاني الدقيقة. ولذا أتابعها متابعة الواثق، لأن المترجم الذي أعرفه يُحسن الإنكليزية منذ دراستها مطلع الخمسينيات في بغداد وهارفارد. كما يُحسن عربيته بفعل نوازع الكاتب والناقد المعنيّ. تدلُّ على هذا طبيعة الصياغة الحذرة للجملة في النص المُترجم، والطلاقة الغنائية في التعليق المُلحق بكل قصيدة، وهو أقرب إلى أن يكون مقالة أدبية، تنعم بالمعلومة ولا تخلو من روح الدعابة الشخصية.

تتكون القصائد من 154 «غنائية»، لعل أكثرها شهرة هي رقم 18. والتي يبدأ مطلعها بـ:

Shall I compare thee to a summer’s day.

هذه الشحنة من عاطفة الحب موجهة، عبر 126 «غنائية» من المجموعة، إلى شاب أروستقراطي اختلف الدارسون في هويته. وعاطفة الحب هذه بالغة العفّة، لا يضارعها غزل المتصوفة. تتطلع إلى مثالٍ عمادُه الجمالُ والأخلاق. وهما معياران للهارموني الكلاسيكي: حيث التوازن الأمثل لـ«الشكل»، الذي يوصل بالضرورة إلى «الخير». قصيدة الحب تصف «الجمالَ» الذي يتمتع به «الشاب». تدفع الثاني برفق باتجاه الزواج، سعياً لإدامة الأول. وما من لمسة حسيّة في هذا الحب، التي نجدها تستيقظ في القصائد الأخيرة المتبقية، حين تتوجه إلى «الخليلة السمراء».

«غنائية» 18

ماذا لو شبّهتك بيم الصيف؟/ لأنتَ أكثرُ رقّةً وأشدُّ اعتدالا،

فهوجُ الرياح تخضُّ براعمَ أيار الحبيبة،/ وعّقدُ الصيف أجلُه جِدُّ قصير،

وعين الشمس أحياناً تُرسل من الحر المزيد،/ وغالباً ما تُغشّي وجهها الذهبيَّ غيومٌ،

وكلُّ بهاءٍ عن بهائه يوماً سينحدر،/ عَرَضاً، أو بمسغارِ الطبيعة المتقلّب،

لكن صيفَكَ الأبديَّ لن يُصيبه ذبول/ ولن يفقد ذلك الحسنَ الذي تمتلك،

ولنْ يختال الموتُ لأنك في ظلاله تطوف،/ وأنت في أشعاري الخالدة تُعاصر الزمان،

فما دام في البشرِ أنفاسٌ وعيونٌ ترى،/ سيدوم هذا الشعرُ، ويبعث فيكَ الحياة.

 هناك ترجمات سبقت ترجمة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، الأولى وضعها جبرا ابراهيم جبرا، ويفضلها لؤلؤة. والثانية متأخرة (2010) وضعها كمال أبو ديب، ويأخذ عليها لؤلؤة أن واضعها درس الأدب العربي لا الإنكليزي في أوكسفورد. ولذلك لم يلتفت إلى التغير الذي طرأ على الانكليزية منذ العصر الإليزابيثي، عصر شكسبير. وكلاهما اعتمد الاختيار المحدود من «السونيتات». لؤلؤة يُحصي في مقدمته بعض أخطائهما، ويعطي القارئ شيئاً من إضاءة لم تتسع للأدب الانكليزي ولتاريخ فن «السونيت» فيه، و«سونيت» شكسبير خاصة، بصورة وافيه تتناسب مع ترجمة هذه المجموعة الكاملة لـ«الغنائيات»، ومع حجم الشروح الممتازة المُلحقة بها.