مسألة المصالحة الكورية

نشر في 28-01-2014
آخر تحديث 28-01-2014 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت تُرى هل تتمكن التجارة والتبادلات التجارية من تعزيز السلام والتفاهم المتبادل بين الحكومات المتخاصمة؟ عندما يتعلق الأمر بالكوريتين، فقد يبدو هذا التساؤل في غير محله، نظراً لعملية التطهير الشرسة الجارية الآن في كوريا الشمالية، ولكن يظل هذا التساؤل يشكل اعتباراً أساسياً عندما نتحدث عن مستقبل كوريا الشمالية وغيرها من الأنظمة المنبوذة في الأمد الأبعد.

إن مجمع كايسونغ الصناعي، المشروع المشترك بين حكومتي كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، يُعَد احتفاءً بمفهوم المصالحة الدبلوماسية من خلال الأعمال التجارية، غير أنه يشكل أيضاً اختباراً صعباً لجدواه الحقيقية. في هذا المجمع يعمل نحو خمسين ألف كوري جنوبي في 123 مصنعا تنتج سلعاً تقدر بنحو 450 مليار دولار (منسوجات وأحذية وسلع منزلية في الأساس).

والواقع أن كايسونغ استثمار مكلف بالنسبة إلى كوريا الجنوبية، التي توفر رأس المال والبنية الأساسية، بما في ذلك محطة لتوليد الطاقة ومحطة لتنقية المياه ومستشفى. ولكن بعد أكثر من عقد من الزمان من افتتاحه فإن هذا المجمع لا يزال يعمل بنحو 40% فقط من طاقاته ولم يجتذب سوى الشركات المتوسطة الحجم.

ورغم الحوافز الضريبية السخية فإن التكتلات التجارية الضخمة في كوريا الجنوبية تترفع بازدراء عن الدخول في هذه التجربة، جزئياً على الأقل بسبب مشاكل النقل والاتصالات الدائمة. إذ لا يمكن الوصول إلى المجمع إلا عبر المنطقة المنزوعة السلاح التي تفصل بين الكوريتين، والتي تتطلب استصدار تصاريح دخول وخروج. وبسبب الافتقار إلى شبكات الهواتف المحمولة والإنترنت العريضة النطاق، يضطر المديرون من كوريا الجنوبية إلى التواصل مع مقارهم بواسطة هواتف الخطوط الأرضية والفاكس.

بطبيعة الحال، لا تُعَد المكاسب التجارية الدافع الوحيد وراء مجمع كايسونغ، فالسلطات الكورية الجنوبية تتفاخر عن حق بهذه المبادرة، والتي تنظر إليها باعتبارها استثماراً في مستقبل العودة إلى الاتحاد مع شطر شبه الجزيرة الشمالي.

ومن هذا المنظور فإن إعلان كوريا الشمالية مؤخراً عن اعتزامها افتتاح 14 منطقة اقتصادية خاصة أخرى يُعَد تطوراً إيجابيا، وتدعمه حوافز مالية كبيرة. فبعيداً عن تمكين الشمال من الحصول على التكنولوجيا وتعلم ممارسات السوق الداعمة للأعمال التجارية، يعمل مجمع كايسونغ على توليد نحو 80 مليون دولار سنوياً في هيئة تعويضات ومكافآت للعاملين (الأجر الشهري الذي يبلغ 160 دولار شهرياً أعلى كثيراً من نظيره في كوريا الشمالية).

ولكن التوترات السياسية والتاريخية تظل تشكل الحياة اليومية في كايسونغ، حيث تعمل الشركات تحت تهديد متواصل بأن تتصرف كوريا الشمالية بتهور لأي سبب، بل إنها قد تتخلى عن المشروع المشترك بالكامل. وبالفعل أدى تصاعد التوتر بين الكوريتين هذا العام إلى إغلاق المجمع مؤقتا.

ونتيجة لهذا، يتعين على الشركات أن تخصص قدراً كبيراً من الوقت والجهد للتعامل مع سياسات كوريا الشمالية المتقلبة وغير الشفافة غالبا، وهو ما تجسد مؤخراً في إعدام جانغ سونغ ثايك عم زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. ويعمل هذا المناخ الزاخر بالتحديات على تقويض سلامة المشروع وقدرته على البقاء، حتى رغم أن النموذج التجاري- القائم على إنتاج العمالة الرخيصة التكلفة من كوريا الشمالية لسلع تحتاج إلى عمالة كثيفة- منطقي إلى حد كبير.

الواقع أن كايسونغ تكاد تشبه قطعة من رواية جورج أورويل "1984"، مع إضافة العناصر الأبوية من القرن التاسع عشر، فالأجواء متكلفة ومكبوتة، حيث يتحرك العاملون حول المكان في صمت وتراقبهم أعين الحراس في كل مكان. خلال زيارة قمت بها مؤخرا، وهي الأولى من وفد أجنبي منذ عام 2006، ساعد الطقس الثلجي البارد في تكثيف هذا الإحساس، وخلق شعوراً أشبه بالتوقف في الزمان والمكان.

بدأت الزيارة بسيارات جيب عسكرية ترافق قافلتنا إلى أراضي كوريا الشمالية، وكانت لوحات أرقام المركبات مغطاة بورق مقوى أبيض، كما كانت أعلام حمراء ملصقة بالأبواب التالية لمرايا الجانب، والتي لم يستطع أي من مضيفينا من كوريا الجنوبية تقديم تفسير لها.

حتى التحضير لزيارتنا، والتي تم تأكيدها قبل أقل من 24 ساعة من بدايتها، كان أشبه بروايات جورج أورويل، وقد صدرت إلينا تعليمات تفصيلية خاصة بالأمتعة تنبئنا بأننا لا نستطيع جلب أجهزة الراديو أو الهواتف المحمولة أو الأجهزة اللاسلكية أو المواد المطبوعة والصور وأشرطة الكاسيت أو أقراص الفيديو الرقمية.

ورغم السماح لنا بإدخال كاميرات قطر عدساتها لا يزيد على 160 ملليمترا، فلم يُسمَح لنا بالتقاط الصور للمنطقة المنزوعة السلاح بين المجمع الصناعي والحدود، أو لجنود كوريا الشمالية وعمالها. كما تم فحص وتفتيش كاميراتنا عندما غادرنا البلاد للتحقق من امتثالنا.

إن الحدود بين الكوريتين يكاد يكون من المستحيل اختراقها، ولا تُفتَح البوابات هناك إلا لمدة نصف ساعة عِدة مرات يوميا، ونتيجة لهذا فإن كل الاتصالات الشخصية تتم من خلال القنوات الرسمية. حتى رغم وصفنا وفداً دبلوماسياً زائراً فقد مُنِعنا من التحدث مع العاملين أو إعطائهم أي شيء، فاكتفينا بمراقبتهم بمزيج من الفضول والتعاطف.

وبدا أن الكوريين الشماليين يشاركوننا الرغبة في التواصل، حيث سعوا إلى الاختلاط بنا قدر استطاعتهم. وقد نظر حارس الحدود الضئيل الحجم في عيني وابتسم بحرارة سائلاً إياي من أين أنا، وعلى نحو مماثل، استجاب العمال المصطفون في أحد المصانع لإيماءاتي بتحيتهم بالتلويح والابتسامات.

ونظراً لمشاعر الشك السائدة، والتي تتغذى على الدعاية الزائفة والجهل الحقيقي على جانبي الحدود، فربما كان مضيفونا مفرطين في الحذر، ورغم هذا فإن "تلقين" ما قبل الرحلة جعل ردود أفعالنا مخنوقة، ومنعنا للأسف من محاولة التواصل مع العمال الذين التقينا بهم بشكل أكثر جدية، وهي الخبرة التي بدت وكأنها تجسيد لصعوبة جلب كوريا الشمالية إلى المجتمع الدولي.

على الرغم من عيوبها فإن مبادرات مثل مجمع كايسونغ تساعد في بناء بيئة من التعاون والثقة. وكما يُظهِر تاريخ آسيا الحديث فإن الأنظمة الاستبدادية تميل إلى الانفتاح في الاستجابة لمزيد من الحركات الشعبية والإصلاحات التدريجية من أعلى إلى أسفل. ولعل بوسعنا أن نتوقع أن يكون أهل كوريا الشمالية مستعدين لتوليد الحركات الشعبية، ولكن من غير المؤكد ما إذا كانت الحكومة على استعداد لتنفيذ المطلوب منها.

إن التوسع في إنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة- بدعم من الاستثمار الخاص المتزايد، وخاصة من الشركات غير الكورية الجنوبية أو الصينية- من شأنه أن يحسن بشكل كبير من احتمالات إقدام نظام كوريا الشمالية على تخفيف حكمه القمعي وتبني برنامج للإصلاح الاقتصادي، كما فعلت الصين قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمان. والواقع أن مهمة نزع فتيل تهديد كوريا الشمالية للسلام والاستقرار في المنطقة لابد أن تتم بالشراكة بين مختلف بلدان آسيا.

* باولا سوباتشي ، مديرة أبحاث الاقتصاد الدولي في تشاثام هاوس.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top