آخر يوم في السنة
اليوم هو 31 من ديسمبر، أي اليوم الأخير في هذه السنة الراحلة، لا أدري إن كان ذلك يعني شيئاً لهذا الكون الفسيح السابح في ملكوت الله، والذي يتمدد من الأزل إلى الأبد؟ أم هي مجرد حسابات وكسور من أيام وشهور ينضدها عقل بشري يتوهم أنه سيد المخلوقات ومبرمج الأزمنة؟بيد أن حقيقة الزمن تبقى أحجية عصية على الفهم. قد نستشعرها في أعمارنا الهاربة وأجسادنا المبرمجة للنمو والشيخوخة والموت، ونراها في الآثار المتآكلة والأطلال الآيلة للخراب والتاريخ الذي تُطوى صفحاته، ونلمسها حتى في اليوم الآفل والزهرة التي تقاوم ذبولها والساعة التي تفرّ منها الدقائق. ولكن ذلك أمر نسبي كما يقول آينشتاين، لا يخص غير سكان هذه الكُريّة التي تسمى الأرض، لأن الزمن خارج أرضنا له إيقاعات أخرى. إذ لكل كوكب من المجموعة الشمسية سنته الخاصة التي قد تطول أو تقصر أيامها، فسنة المريخ تعادل حوالي ضعف عدد أيام السنة الأرضية، بينما سنة كوكب صغير مثل عطارد لا تزيد عن ثمانية وثمانين يوماً أرضياً. ولنا أن نتخيل مدى تعقد أحجية الزمن إذا ما خرجنا عن إطار المجموعة الشمسية إلى مجاميع شمسية أخرى في فضاء هذا الكون اللامتناهي.
بعض أفلام الخيال العلمي لامست مشارف هذا اللغز الكوني. ففي فيلم (كوكب القردة) مثلاً، نجد مركبة فضائية تعود إلى الأرض بعد ردح من الزمن، وعلى متنها روّاد لم يزالوا في عمر الشباب، ولكن صدمتهم العنيفة كانت حين اكتشفوا أن زمن الأرض كان قد أمعن في الدوران، وانتهت حضارة البشر وتقوّضت معالمها وانقرض إنسانها، وسادت بدلاً منه حضارة القرود، في الوقت الذي كان فيه هؤلاء الروّاد الفضائيون في دائرة زمنية أخرى أبقتهم على ريعان شبابهم. ولعل هذا ليس خيالاً علمياً محضاً، إذ ان أينشتاين كان قد نوّه في نظرية النسبية حول هذا الاختلاف في إيقاع الزمن من منظور فلكي. في هذا السياق لعل بعضنا قرأ حول الاستعدادات التي تُجرى لإرسال مجموعة بشرية إلى كوكب المريخ في السنوات القليلة القادمة للعيش هناك دون عودة. وكيف أن الكثير من المتطوعين قدموا طلبات برغبتهم في الانضمام إلى هذه البعثة البشرية ومنهم عدد من الكويتيين! ويبدو أن مسألة طول السنة المريخية الذي يعادل ضعف عدد أيام السنة الأرضية له دور في حلم البقاء على الشباب وإطالة العمر. فالإنسان في عمر الستين على كوكب الأرض سيكون في عمر الثلاثين على كوكب المريخ، ومن هو في الثمانين سيكون في الأربعين... وهكذا. في الأساطير بحث جلجامش عن حلم الخلود، وبحث غيره عن ينبوع الشباب وعشبته وأكسيره. ويبدو أن جلجامش لم يكن يدرك أن زمنه مرهون بعيشه على الأرض الذي قُدّر أن تكون سنتها 365 يوماً لا غير، كما قدّر أن يكون جسده مبرمجاً لعدد محسوب من السنين الأرضية. ولم يكن حلمه يتسع ليحلق خارج حدود كوكب الأرض بحثاً عن خلود من نوع آخر. ثم تأتي المأثورات الدينية لتؤجّج حلم الخلود والشباب، الذي - حسب المعتقد الديني - لا يوجد إلا خارج هذا المحيط الأرضي وخارج زمنه وإيقاعه، وفي مكان لا يخضع لدورات الكواكب وسنواتها الشمسية . فجعل الله الجنة أو الفردوس أو السماوات العلا دون زمن ودون شمس، (لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا)، وإنما هو الظل الممزوج بالنور، والوقت الدائم والشباب الخالد. وحين ينتفي الزمن يتفتق المكان بالنعيم والمسرات السرمدية، لكأن الزمان والمكان هنالك توأمان لا ينفصلان. ومن هذا المنظور يمكن للعقل البشري أن يفكك لغز الزمن ويربطه بمجموعة من القوانين الطبيعية التي تختلف آلياتها من موقع إلى آخر في طبقات الفضاء وآماد الكون. «فسبحان الذي بيده ملكوتُ كل شيء وإليه تُرجعون».