"الحريم" هي آخر رواية للكاتب المصري حمدي الجزار، الذي له من قبلها "سحر أسود" و"لذات سرية" و"كتاب السطور الأربعة" و"الحالمون في ثورة".

Ad

نال جائزة مؤسسة ساويرس للأدب 2006 وجائزة بيروت 39، وترجمت أعماله إلى الإنكليزية والتركية والفرنسية والتشيكية.

الحريم أول عمل روائي اقرأه للكاتب، وهو في رأيي يختلف عن كتاب جيله الذين ركبوا موجة التقليد الفانتازي أو العجائبي الذي يدور في فلك الكاتب الياباني هاروكي موراكامي أو سينما الخيال العلمي، كتابته آتية من صلب الواقع بكل تجلياته، كتابة حية شخصياتها منحوتة من لحم ودم الحارة المصرية بكل خصوصيتها ومواصفاتها، وهي قريبة من شخصيات حارات الكاتب الكبير نجيب محفوظ، فهو الأب الروحي لها، لكن حمدي الجزار استطاع أن يمتلك خصوصيته في كتابتها، فرغم ان شخصيات العمل آتية من ذات الحواري التي كتب عنها نجيب محفوظ فإنها امتلكت روح عصرها، آتية من زمنها المعاصر هذا، لذا لبست روحا مختلفة خاصة بها تشبه نبض عصرها، استحضرها الكاتب من مهاجع استعمرت طفولته وسكنتها حتى نضجت وحان مخاضها فولدت بروح أصالتها.

الرواية تتكلم بلسان بطلها "سيد فرج" الذي يروي حكايته منذ أن فطمته أمه بطة إلى أن وصل مرحلة دراسته للماجستير، ومن خلاله نتعرف على معظم النساء اللاتي مررن في حياته سواء من كن في حارته أو اللاتي التقى بهن في مراحل دراسته المختلفة، ومن داخل هذه العلاقات يتعرف القارئ على كل ما يدور من حياة متشابكة ومترابطة في نسيجها المصري المسيطر عليه خصوصية المكان، برائحته وتعبيرات لغته وشبكة نسيج تواصله السرية التي لا تشبه إلا ذاتها وختم مصريتها، فعمق حياة الحضارة المصرية يتجلى في خصوصية حاراتها التي لا يوجد لها مثيل في أي من الدول العربية أو الخليجية، فمثلا حي بطل الرواية "سيد فرج" الممتد من ميدان طولون وجامع السيدة سكينة والذي هو مثال لبقية الحواري، علاقات السكان فيه حميمية جدا وكأنهم عائلة كبيرة مرتبطة في علاقاتها وتشابكها الإنساني الفريد في نوعه، حتى ان أعمالهم تكمل بعضها البعض فحياتهم تبادلية وتكاملية في احتياجاتها وخدماتها، فكل من فيها هم من المهنيين والصنايعية.

 فهناك فرج النجار والد راوي الرواية، وهناك طارق الأسطرجي وعليمي الفكهاني وحسن الفران وزينب الخضرية وعبدة القماش وعوض الجزار وحورية الخياطة والمنجد والحداد والكثير من الأسطوات وصبيتهم، وكل هؤلاء استطاع الكاتب أن ينحت شخصياتهم بدقة بما يناسب منطق مهنتهم وثقافتهم الشعبية وكيفية ردود أفعالهم وتصرفاتهم، خاصة في كتابته لشخصيات الحريم اللاتي مررن في حياته من طفولته وحتى نهاية روايته.

 فقط استطاع نحتهن من الداخل والخارج بحسب منطق كل شخصية على حدة، وهناك مشاهد بلغت قمة الروعة في تصويرها مثل مشهد أمه حينما يصلها خبر إغماءة زوجها في محله فتخرج بجلابية البيت إلى الشارع، وهي تجري من دون وعي لوضعها المثير الذي أجاد الكاتب في تصويره في مشهد سينمائي بجدارة، أغلب المشاهد كتبت بكتابة سينمائية لذا جاءت متحركة صاخبة حية.

وأيضا اللغة كان لها دور كبير في حبك المشهد وتجسيده، فهو يكتب عن شخصية مثل: "لوزة تبيع برتقالا ويوسفي في الشتاء، ومانغو في الصيف، ودلعا حلوا، مجانيا، طوال العام". "زغرودة لوزة مشهورة في حيّنا، جميلة وطويلة، كزغرودة بلبل، من عرف في طولون أن فرج وقع، عرف الآن، بسماعه زغرودة لوزة، أن فرج قد قام".

وحينما تتخلى اللغة عن خفة روحها المصرية، لتطير برهافة مشاعرها وتلاشيها في ذوبان مع الشخصية التي ترسمها في هذا الموقف: "لقد أحببت ريم وأنا أسمع كلماتها لدرجة أكبر مما أحتمل، أحببتها لدرجة أنني تقريبا صرت مثلها، مجرد ريح لطيفة تهب على حديقة، على بستان زهور، دون أن ترى حولها أي قبح أو بغض، طار عقلي، وانفتح قلبي للجمال حتى أنني لم أعد بحاجة لرؤية ريم كي أكون سعيدا، لقد بلعت جسدها الشفاف كله، وتركته يسري في وجودي، ريم وهبتني ما يكفي ويزيد، ريم وهبتني كل ما لديها، كأنها لم تمنحني شيئا، خرجت من وجودي بنفس العذوبة، والسلاسة، التي دخلت بها".