يمكن تفسير عهد باراك أوباما الرئاسي استناداً إلى غريزتين: واحدة متوقعة والأخرى مفاجئة، الغريزة المتوقعة هي نزعة أوباما إلى الاتكال المفرط على الدروس التاريخية، أما الغريزة الثانية فهي تثير دهشة أكبر لكنها ترتبط بالأولى: إنها قلة جرأة أوباما في مناسبات متكررة.

Ad

كل زعيم نافذ يتعلم من التاريخ لكن اللحظات المحورية من عهد أوباما تشير إلى أنه يسير في الاتجاه المعاكس كونه يتردد بشدة في تكرار أخطاء أسلافه، فعلى الساحة المحلية، يشمل أبرز مؤشر في هذا المجال طريقة انسحابه من الجدل المتعلق بالرعاية الصحية في الكونغرس، والدرس (الصحيح) الذي يمكن استخلاصه من إدارة كلينتون هو أنّ فرض مشروع ضخم على الكونغرس يشكّل وصفة مثالية لكارثة تشريعية، لكن أوباما كان مصمماً للغاية على عدم تكرار أخطاء هيلاري كلينتون وأمثالها لدرجة أنه بالغ في الابتعاد عن الجدل التشريعي.

طوال أشهر ثمينة انسحبت الإدارة على أمل أن ينجح الديمقراطي ماكس بوكوس من مونتانا والجمهوري تشاك غراسلي من أيوا في التوصل إلى اتفاق بين الحزبين، وترددت الإدارة في توضيح موقفها من مسائل محورية، واستمرت النقاشات لفترة طويلة ولم تتوصل إلى أي نتائج جازمة كما كان متوقعاً، ثم جاء موت السيناتور تيد كينيدي وانتخاب الجمهوري سكوت براون ليهدد الأغلبية الديمقراطية التي كانت تستطيع تمرير مشاريعها، وكادت المؤسسة كلها تنهار.

على مستوى السياسة الخارجية، كان أبرز مؤشر على اتكال أوباما المفرط على الدروس التاريخية يتعلق بكامل سياسته الخارجية تقريباً، فكانت هذه السياسة بمثابة ردة فعل (ولو أنها مفهومة بما يكفي) على مغامرات جورج بوش الابن، ولا سيما الحملة المتهورة والمحكومة بالفشل في العراق.

تعهد بوش بإطلاق حملة محدودة لكن سرعان ما تجاوز الخطة الأصلية، وتعهد أوباما من جهته بتطبيق مقاربة واقعية لكنه قلّص بذلك الدور الأميركي في الشؤون العالمية، وهذا ما يفسر تردد الإدارة في التدخل في ليبيا، وتضييع الوقت سدىً لاتخاذ القرار بمساعدة الثوار في سورية وتحديد طبيعة المساعدة، والفشل في فرض ضغوط كافية لعقد "اتفاقية وضع القوات" التي كانت ستسمح ببقاء القوات الأميركية في العراق.

كان ميل الإدارة إلى الانسحاب وتجاهل المشاكل المتفاقمة من العوامل التي ساهمت في النتيجة الكارثية التي بدأت تتبلور الآن في العراق، صحيح أن الخطأ الأصلي (وهو أكثر فداحة بكثير) كان قرار الغزو لكن من مسؤولية الرئيس الراهن أن يتعامل مع الأخطاء التي يرثها.

صحيح أن عقد الاتفاقية بشأن القوات كان سيطرح صعوبة كبيرة، لكن لا شيء يؤكد أن بقاء القوات الأميركية كان سيساهم في تجنب الأزمة الراهنة، صحيح أن الوضع السوري معقد على نحو مريع وأن تقديم المساعدة إلى الثوار هو قرار محفوف بالمخاطر، لكن أدى الانتظار العقيم إلى إنتاج الكارثة الراهنة من دون توافر أي خيارات يكون نجاحها مضموناً.

على صعيد آخر، تعكس استراتيجية التهرب والتأجيل غريزة أوباما الثانية، أي غياب الجرأة الرئاسية على نحو غير متوقع، وهذا الاتهام لا ينطبق طبعاً على جميع الملفات، ففي مجال الرعاية الصحية مثلاً، تجاهل أوباما بكل حزم مجلس المستشارين السياسيين الذي حثّه على قبول نسخة أقل شمولاً، ولها تأييد أوسع لإصلاح القطاع الصحي، وفي هذه الحالة، كان أوباما هو الذي أصر (عن وجه حق) على حصول مواجهة تشريعية.

تشمل قرارات أوباما الجريئة أيضاً خياره الضمني بمطاردة أسامة بن لادن ورؤيته التوسعية للسلطة التنفيذية، أي تحقيق أهداف محلية عبر تحرك تنظيمي أو، في الفترة الأخيرة، تجاهل توجيهات الكونغرس في صفقة تبادل الأسرى لاستعادة بو بيرغدال.

لكن تمثّل أكبر فشل لأوباما على الساحة المحلية بقراره تجاوز توصيات لجنة سيمبسون-باولز التي عيّنها بنفسه لمعالجة المسؤولية المالية، فمجرد قول ذلك يثير حفيظة المسؤولين في البيت الأبيض، وبحسب رأيهم، كان دعم التقرير سيبدو قراراً انهزامياً في ظل بيئة حزبية، حيث يُعتبر كل ما يدعمه أوباما معادياً للجمهوريين، ويثبت الفشل اللاحق في المحادثات لعقد صفقة كبرى في هذا المجال قلة جدوى تطبيق توصيات سيمبسون-باولز، وقد يكون هذا الأمر صحيحاً لكن يستحيل أن نتأكد من أن الوقت كان مناسباً ما لم نستغل الفرصة.

في مجال السياسة الخارجية، تبدو قلة جرأة أوباما بدهية ومبررة، فقد يتنفس البعض الصعداء ولا سيما الديمقراطيين عند قراءة هذا التحليل، ولكن كان هذا التقييم سيصبح أكثر إقناعاً لو لم تكن نتائج تردد أوباما خطيرة لهذه الدرجة، ليس فقط بالنسبة إلى معاناة المدنيين في أماكن أخرى، بل بالنسبة إلى المواطنين الأميركيين على الساحة المحلية أيضاً.

ما يحدث في العراق وسورية لن يبقى محصوراً هناك بالضرورة، إذ يملك عدد كبير من المقاتلين الأجانب الذين يتدربون هناك جوازات سفر أميركية وأوروبية، ويبدو أن اشتعال الوضع على الجانب الآخر من العالم بات يهدد الوطن الذي أنفقنا عليه تريليونات الدولارات، وتكبدنا آلاف القتلى لحمايته، فالرئيس الذي يتجاهل هذه المخاطر هو من يتحمّل مسؤولية قراره، ولا يمكن المبالغة يوماً في تعلّم هذا الدرس التاريخي.

*واشنطن بوست