تتزايد معاناة المجتمعات العربية والإسلامية، بدرجات متفاوته، من ظاهرة تزايد أعداد الشباب، صغار السن، المتحمسين والمندفعين إلى مواطن القتال بطرق غير مشروعة، اعتقاداً بفرضية الجهاد وظناً بالقيام بواجب نصرة الأمة ورفع راية الإسلام، بالتحاقهم بإخوانهم المجاهدين، أملاً في الفوز بإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

Ad

 ففي تقرير نشر مؤخراً، تتضح زيادة عدد المقاتلين الذي شدوا الرحال إلى سورية، وبخاصة من دول الاتحاد الأوروبي ودول الربيع العربي، ليتصدروا القائمة بعد أن كان القادمون من الخليج والدول الحدودية لمنطقة التوتر، هم المتصدرون في "تحول جديد" يتطلب "قراءة جديدة" طبقاً ليوسف الديني. ترى ما الذي يدفع شاباً صغيراً لم يبلغ العشرين، يعيش في رغد، آمن في سربه، أن يترك وطنه وأهله ووالديه ويتسلل خلسة إلى بؤر الهلاك؟! يقولون: شبكة التواصل الاجتماعي، والمواقع الجهادية الإلكترونية، والخطاب التحريضي عن الجهاد، ووجود الفراغ السياسي والأمني في عدد من دول المنطقة بسبب تردي أوضاعها الأمنية، هي عوامل تشكل "الثقب الأسود" الذي يجتذب الشباب ويشكل حواضن خصبة لتزايدهم.  ولكن هذه أدوات ووسائل وعوامل مساعدة لا تستقطب ولا تجند إلا من عنده الاستعداد والقابلية، فلا تشكل العامل الرئيسي في أعداد المقاتلين الذين يريدون التضحية بالنفس، إنه– في تصوري– "ثقافة الموت" وهي تلك الثقافة التي تزرع في نفوس الشباب وتزين لهم تفجير أنفسهم تحت شعارات قومية مثل: الدفاع عن "كرامة الأمة" أو مفاهيم دينية مثل "الجهاد" باعتباره "أسمى أنواع الجهاد" هي تلك الثقافة التي تدفع شباباً في عمر الزهور إلى الهلاك في سبيل قضايا خاسرة، وتزج بهم في معارك غير متكافئة، معروفة نتائجها سلفاً.

 "ثقافة الموت" ثقافة لا تقيم وزناً لحياة الإنسان، تسترخص دمه وتضحي به في مشروعات خيالية مثل: إقامة "الدولة الإسلامية" واستعادة "الخلافة" واستنساخ "صلاح الدين" ليوحد الأمة ويقودها إلى مواجهة الغرب وهزيمة إسرائيل!

"ثقافة الموت" ثقافة تعادي الحياة والأحياء، وتدمّر مشاريع التنمية وتجرّ الكوارث على المجتمعات، وتزرع الأوهام في عقول الشباب، هي ثقافة تشيع الكآبة والبؤس وتشحن النفوس بالكراهية تجاه العالم بسبب غلوها وتوسيعها لدائرة المحرمات، حتى تصبح الحياة مكاناً غير جدير بالعيش، ويتحول "الوطن" إلى سجن خانق، وينقلب "المجتمع" و"الدولة" إلى عدوين، ليجد الشباب أنفسهم في النهاية أمام أحد خيارين: الانغماس في حياة اللهو والترف أو الفرار إلى حياة أخرى عبر تفجير النفس.

 ومن اطلع على كتيب صغير ألفه أصولي مصري تائب بعنوان "الدنيا أحلى من الجنة" تتضح له هذه الحقيقة المرة "ثقافة الموت" ثقافة معادية للتقدم والتواصل الإنساني والانفتاح على الثقافات، هي ثقافة منشغلة بصناعة الموت وترويع المجتمعات، ولذلك تستغل كل الوسائل التقنية لتحقيق أهداف عدوانية، "ثقافة الموت" هي الثمرة المرة التي أنتجها خطابان تصدرا المشهد العام وإلى اليوم "التكفير والتخوين".

 لقد أصبحت ثقافة الموت المجسدة في مشاهد القتل والتدمير والخطف والتفجير، الزاد اليومي الذي يقدمه الإعلام للناس، وهناك من يروجها ويمجدها ويتاجر بها، باعتبارها "الحصن المنيع" الذي يحمي "كرامة الأمة" ويدافع عن "شرفها" ويصون "عزتها"، فنحن، ولا فخر، أمة تضحيات و"التناسل" أمضى أسلحتنا "إذا كان الغرب يملك القنابل الذرية فنحن المسلمين نملك القنابل البشرية".  هذه الثقافة أنتجت عقلية ترى في خطف بنات المدارس في نيجيريا وبيعهن في السوق كسبايا أمراً شرعياً جائزاً، كما ادعى زعيم "بوكو حرام"، إننا اليوم بحاجة ماسة إلى تحبيب شبابنا في "ثقافة الحياة"، علينا أن نعلم شبابنا: كيف يبني شباب العالم ويصنع وينتج ويكتشف كل يوم جديداً، يسهل حياة البشر ويخفف من آلامهم وأمراضهم، لنعلمهم كيف يعمرون وينتجون ويبنون ويكتشفون ويخترعون ويبدعون في سبيل الله تعالى، بدلاً من أن يموتوا في سبيله تعالى. إن شبابنا الذين اندفعوا للموت سراعاً، فعلوا ذلك، لأننا لم نفلح في أن نجعل الحياة مكاناً محبباً لهم، ملأنا قلوبهم بالكراهية: كراهية "الحضارة الغربية" كونها مادية إباحية، وصليبية حاقدة على المسلمين، وكراهية "مجتمعاتنا ودولنا وأنظمتنا" لأنها جاهلية لا تطبق شرع الله تعالى وفاسدة ومستبدة!

 لقد أخفقت مناهجنا التعليمية والمنظومات الدينية والثقافية في تحبيب الشباب بالحياة، علمناهم أن "الوطنية" تقاس بمقاومة إسرائيل ومنازلة أميركا ومواجهة الغرب، ولم نربهم على أن "الوطنية الإيجابية" التي تدفعهم للبناء والتنمية والتقدم وما فيه خير أوطانهم، ولم نعلمهم أن "الوطنية الحقة" برهانها الإخلاص والتفاني في العلم والعمل، لا الصراخ وعلو الصوت بالشعارات الحماسية! إن ديننا دين الفرح والبهجة والمحبة والتسامح وإسعاد الناس بخدمتهم والتمتع بالحياة وزينتها "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ"، ورسولنا صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين وبشارة للناس كافة، وقرآننا يعدد نعم الله علينا بما يوجب الشكر والامتنان، والرسول ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، لكننا لم نفلح في ترجمة هذه التعاليم والقيم السامية على أرض الواقع ولم نحسن تفعيلها في سلوكياتنا ومعاملاتنا وعلاقاتنا، فأنتجت البيئة شباباً متوتراً، كيف لا يتطرف هذا المخلوق البائس التعس المسمى بـ"الإنسان العربي أو المسلم"، وهو مكبل بسلسلة من قوائم الحظر والتحريم والتخويف والتحذير والترهيب، تلاحقه منذ قدومه للدنيا حتى رحيله:

 1- قائمة تحذيرات من أعداء دائمين متربصين لا عمل لهم إلا الكيد للإسلام، يلقن النشء عبر الكتاب المدرسي والبيت والمعلم والإعلام والمنابر بأن يكون على حذر منهم.

 2- قائمة ثانية بمواعظ ترهيبية تخويفية من عذابات لا تكاد تنتهي، في الدنيا والآخرة، بداية بعذاب القبر وأهوال يوم القيامة.

 3- قائمة طويلة ثالثة بمحرمات واسعة، تحول حياة هذا المخلوق إلى معاناة مستمرة وحرمان دائم، غير قادر على الانسجام والتكيف مع التغييرات الاجتماعية الحاصلة وبخاصة فيما يتعلق بوضعية المرأة في المجتمع.

 تضاف إلى ذلك: المواقع الإلكترونية المتشددة والفضائيات المتعصبة التي تغذي الغرائز الأولية في هذا المخلوق البائس، وما أكثرها وما أعظم شرورها! وهذا غير خطباء الجمعة الغاضبين أبداً، زادوا الشباب رهقاً، تدخل لتستمع الموعظة الحسنة، فتخرج متوتراً غاضباً! وكأن كل ما سبق غير كاف، حتى نصطنع "شرطة دينية" تلاحق الشباب وتحصي عليهم أنفاسهم، فكيف لا يعتنق بعض شبابنا "ثقافة الموت"؟! وكيف لا تشيع مظاهر التوتر والتمرد والقلق والإحباط في المجتمع؟!

"ثقافة الحياة" تعني حب الخير والتسامح والتعايش والحوار البناء وقبول الآخر على علاته، ونشر القيم الرفيعة والمودة والبر مع المخالفين لنا في الدين والمعتقد والجنسية، الإسلام دين التسامح حقاً، ينبذ العنف والتعصب والكراهية، والبشرية في نظر الإسلام، أسرة إنسانية واحدة، لقد وصفنا المولى بالخيرية ونشر القيم الرفيعة، فما أحوجنا اليوم إلى تفعيل هذه القيم في مجتمعاتنا.

* كاتب قطري