السالمية «1- 2»
السالمية، هذه المدينة المراوغة، اللعوب، المتلوّنة، المعتّقة، المبهرجة، الفوضوية، المغتسلة بالبحر، المتحفّزة للإغواء، الناصلة من البراءة، والابنة الضالة التي غادرت بيت العائلة ونثرت شعرها للغرباء والعاشقين وعابري السبيل.كنتُ أجلس في ذلك المساء الرائق قبيل الغروب، على إحدى طاولات مقهى «بول» الذي يطلّ بتواضع حميم وأنيق على شارع سالم المبارك، الشارع الذي يشق قلب السالمية ابتداءً من تقاطع ميدان حولي وحتى حدود «الراس»، قبل أن ينحني بانسياب تجاه شارع البلاجات. والمقهى رغم كونه جزءاً من «المارينا مول»، إلا أنه بإطلالته المتواضعة على السالمية القديمة، يشعرك بصلة الرحم بين ماضي السالمية وحاضرها. فأمامي «سوق راشد» والقيصرية القديمة، وسوق الذهب، ودكاكين الهنود المتواضعة التي لاتزال تعرض البضائع الرخيصة والحجابات النسائية والأواني المنزلية وألعاب الأطفال. وورائي تربض «مارينا مول» و»مارينا كريسنت» حيث الماركات العالمية والأناقة والمطاعم الراقية والروّاد الأكثر رقياً وأناقة.
السالمية، يا جارة البحر، وموطن الطفولة والصبا، أيتها الدافئة الرطبة، الموغلة في النأي، تُرى من أين نبدأ سيرة الحنين ؟ كانت أمي تتساءل – كما روت لنا لاحقاً – وهي في ذهول المستنكِر، كيف لها أن تنتقل من «الديرة» إلى «قلعة وادرين*» عام 1958م ؟! وكانت «قلعة وادرين» هي السالمية التي كانت حينذاك بلدة ناشئة بعيدة، تفصلها عن العاصمة مسافات لا تُصدّق! ويبدو أن المسكينة رضيت أخيراً بالأمر الواقع وبحياة أخرى جديدة لن تصعب على التأقلم في قادم الأيام.كنتُ قد ناهزتُ الخامسة من العمر وقتئذ، وأوشكت على الالتحاق بالصف الأول الابتدائي في مدرسة السالمية الابتدائية للبنات. وكان مشهد حيّنا الجديد يبدو وادعاً وأليفاً، حيث تصطف بيوتنا الجديدة ذات الطابق الواحد والسطح جنباً إلى جنب، يقابلها في الجهة المقابلة صف آخر مماثل، ويتوسط الصفين ساحة ترابية شاسعة كانت الملعب المثالي لكل أطفال الفريج بناتٍ وصبياناً، وكانت «الحجْلة» و»المُقصي» و»صيده ما صيده» و»اللبيدة» و»التّيل» هي ألعابنا الأحلى والأغلى. ورغم كون السالمية بلدة ناشئة حينذاك، فإنها كانت تنهض بثقة وتؤدة، ففي العام الذي انتقلنا فيه إليها كانت خدماتها قد اُستكملت تقريباً. فقد كانت هناك مدرستان ابتدائيتان ومدرستان متوسطتان للبنين والبنات، وكان هناك مركز طبي «مستوصف»، ومخفر للشرطة، وسوق عامر يتأسس باضطراد. ويبدو أن سمعة السالمية كمنطقة واعدة كانت قد أُخذت بعين الاعتبار، فقد سبقت إلى سُكناها عائلات من الأسرة الحاكمة، كأسرة الشيخ صباح السالم الصباح حين كان ولياً للعهد، وأسرة الشيخ عبدالعزيز سعود الصباح، وكانت منازلهم تحتل الشريط الساحلي وما زالت. هذا بالإضافة إلى عائلات «القناعات/ المطوّع والمسلّم»، والعوازم، والعتيقي وحيات والسريّع والشمالي والمجرن وغيرها من الأسر الميسورة والبسيطة.وكانت مدارسنا هي البوتقة التي تختلط فيها كل الفئات وتتقارب، ففي ذات الفصل الدراسي كانت تتجاور بنت الشيخ وبنت التاجر وبنت الفقير، ويتنافسن كأفضل ما تكون الروح الرياضية وتكون الزمالة وتكون العِشرة الجميلة.وكما كانت السالمية موطناً للعوائل الكويتية، كانت مسكناً أيضاً للجاليات الأخرى، ويأتي على رأسها الفلسطينيون. نرى ذلك في فصولنا الدراسية حيث تحتدّ المنافسة مع الفلسطينيات من آل الشوّا وبسيسو وشحيبر والحسيني وغيرهن. كما أتذكر أنه من بين زميلاتنا كانت هناك السورية والمصرية والعراقية والإيرانية وإن بصورة ضئيلة. مما يدل على قبولنا بالانفتاح والتأقلم، وعدم انغلاق المدرسة الحكومية على الكويتيين فقط كما هو حاصل اليوم.كان الطريق إلى المدرسة ترابياً لايزال، وكانت تتراءى لنا بين الحين والآخر آثار لآبار مهملة وقديمة. إذ يبدو أن الأرض كانت حقولاً زراعية، ثم عفا عليها الزمن حين بدأ العمران. وكما هو معروف فإن السالمية كانت تسمى «الدمنة» سابقاً، إشارة إلى الدمن أو «البعر»، مما يدل على أنها كانت موطن رعي أيضاً. وبسبب تلك الآبار المهملة في طريق المدرسة، وخوفاً علينا من السقوط فيها، كان الباص المدرسي هو الحل الأمثل، والذي أصبح بعدها من الضروريات رغم قرب المدرسة من البيت. ..... يتبع«*» قلعة وادرين: ليست مسمىً لمكان بعينه، وإنما تُقال في اللهجة الدارجة كناية عن المكان الممعن في البعد.