سيمكن ضرب عشرات الأمثلة على السلوك السياسي الانتهازي لتنظيم "الإخوان" والمناصرين له والمتحالفين معه، لكن هذا الشهر يقدم لنا ثلاثة نماذج جديرة بالاهتمام في هذا الصدد.

Ad

النموذج الأول يتعلق بالداعية القطري (المصري الأصل) الدكتور يوسف القرضاوي، الذي بذل جهوداً مضنية لخدمة تنظيم "الإخوان" والدفاع عنه وتأييد مواقفه، خصوصاً بعد إطاحته من حكم مصر، إلى درجة قيامه بتحريض المصريين على قلب نظام الحكم، ودعوة جنود الجيش إلى عدم إطاعة أوامر قادتهم.

يُسخّر القرضاوي مكانته كداعية إسلامي من أجل خدمة تنظيم "الإخوان" وتخريب الأوضاع في مصر، باعتبار أن ما يجري في هذا البلد حالياً ليس نتاج رفض المصريين لفاشية "الإخوان" وفشلهم، بعدما استبدوا بالسلطة في أعقاب ثورة يناير، ولكن باعتبار أن التطورات الأخيرة التي أتت بدستور ورئيس منتخب في انتخابات نزيهة تمثل "حرباً على الإسلام" على حد زعمه.

ظل القرضاوي على مدى عقود يدعو إلى إقامة "الخلافة الإسلامية"، وآخر تصريح له في هذا الصدد يقول فيه إنه "يتمنى قيام الخلافة، وتهفو إليها نفسه"، لكنه مع ذلك، قرر أن إعلان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الخلافة الإسلامية "باطل شرعاً، ولا يخدم المشروع الإسلامي".

يقرر القرضاوي أن الخلافة "التي تهفو إليها نفسه" باطلة إذا أتت من غير جماعته، ويتذرع في سبيل ذلك بذرائع من نوع أنها "تحمل آثاراً خطيرة على أهل السنة في العراق والثورة في سورية"، وأنها "لا تلبي شروطاً شرعية"، وغيرها من الحجج الواهية.

أما النموذج الثاني، فيمثله رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان؛ الذي ظل في سدة الحكم في تركيا لمدة تزيد على 11 عاماً كرئيس وزراء بصلاحيات تنفيذية واسعة، وعندما شارفت مدة ولايته الثالثة على الانتهاء، وبات عليه أن يمتنع عن الترشح لولاية رابعة، وفق لائحة حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي ينتمي إليه، قرر أن يترشح لمنصب رئاسة الجمهورية.

وعندما يفوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية، المقررة في شهر أغسطس المقبل، كما هو مرجح، ستمنحه ولايته الأولى أربع سنوات أخرى في أعلى مستويات السلطة، وهو ما يعني أنه سيكون صاحب أطول فترة حكم في تركيا منذ مؤسس الدولة الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.

تشير استطلاعات الرأي إلى فوز مؤكد لأردوغان، وتتحدث بعض هذه الاستطلاعات عن استطاعة الرجل حسم السباق من الجولة الأولى، بحصوله على نسبة 56% من الأصوات، مقارنة بمرشحين اثنين منافسين غير معروفين للكثير من الجمهور. لقد استطاع أردوغان خلال ثلاث ولايات متتابعة في منصب رئيس الوزراء أن ينقل تركيا نقلة حقيقية إلى الأمام، وبعدما تسلم زمام الأمور في وضع صعب، لدولة مديونة، مرافقها متداعية، وأداؤها الاقتصادي هزيل، وموقفها الإقليمي والدولي مهزوز، استطاع أن يصل بها إلى وضع مرموق، بعدما نجح في علاج الاختلالات، وقيادة البلاد إلى الأمام بقوة.

باتت تركيا في عهد أردوغان إحدى الدول المتقدمة في المجالات الصناعية والاستثمارية، كما انتعش القطاع السياحي فيها انتعاشاً قوياً، وتعزز الإنتاج الصناعي، وتدفقت الاستثمارات الخارجية على الاقتصاد النشيط، وتحسن مستوى الدخل الفردي، ليتضاعف عدة مرات.

تلك هي العوامل التي تعزز مكانة أردوغان، وتمنحه فرصة الفوز في الانتخابات المنتظرة، وربما ستمكنه أيضاً من إجراء تعديلات دستورية تضمن له توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية لتصبح أكثر تأثيراً في السلطة التنفيذية، ويتحول معه هذا المنصب الشرفي، الذي كان يصل إليه صاحبه عبر انتخابات غير مباشرة، إلى منصب أكثر فاعلية وتأثيراً.

لقد ألمح أردوغان إلى نيته إجراء تعديلات دستورية تسمح له بممارسة صلاحيات تنفيذية، بشكل يمكن أن يبقيه مهيمناً على السلطة في بلاده لأربع أو ثماني سنوات مقبلة. حتى في حال لم يستطع تمرير التعديلات الدستورية التي تضمن له تلك الهيمنة، فإنه ألمح إلى قيامه بممارسة سلطات أوسع، يمكن أن تحول تركيا إلى نظام رئاسي أو مختلط (رئاسي- برلماني)، استناداً إلى أنه سيكون أول رئيس منتخب انتخاباً مباشراً من الشعب.

وفي كل الأحوال، سيكون أردوغان رئيساً بصلاحيات، وبالنظر إلى نزعته السلطانية، وحس الهيمنة البادي في سلوكه السياسي، وقدرته على تأمين أكثرية مريحة في البرلمان، فيبدو أن الرجل لن يتنازل عن السلطة رغم فضائح الفساد التي تفجرت في حزبه وطالته وأفراد أسرته شخصياً أخيراً.

وعلى عكس الطريقة التي وصل بها أردوغان وحزبه ذو المرجعية الإسلامية (ذات الظل "الإخواني") إلى السلطة، فإن الإجراءات التي يسعى إلى اتخاذها تبدو محاولات لاستخدام وسائل الديمقراطية من أجل خلق استبداد جديد. لقد خدم بلاده من دون شك، وحقق لها تقدماً ملحوظاً، لكنه لا يريد أن يمضي ليكرس المؤسسية، ويسمح بنقل السلطة إلى حاكم جديد بشكل ديمقراطي، كما ادعى كثيراً، وعوضاً عن ذلك يبحث عن الوسائل التي تحوله إلى دكتاتور مستند إلى قدرته على الإنجاز.

أما النموذج الثالث الذي يشير إلى نزعة "المراوغة" لدى "الإخوان" وحلفائهم، فيأتي من غزة التي تتعرض لعدوان إسرائيلي شرس في هذه الأثناء.

فقد تحدث خالد مشعل إلى مواطنيه الأسبوع الماضي لحضهم على مقاومة العدوان الإسرائيلي، كما دعا العرب والمسلمين إلى مساندة فلسطين لمواجهة هذا العدوان. وفي غضون ذلك، رأى مشعل أن يغمز من قناة الجيش المصري، أو بالأحرى السلطة الجديدة في مصر التي جاءت على أنقاض حكم "الإخوان"، فقال إنه "ينتظر نخوة جيش مصر العظيم تجاه أمته العربية".

في الظاهر تلك دعوة مبطنة للجيش المصري، والقيادة المصرية السياسية، لاتخاذ إجراء عسكري حيال إسرائيل، وهو أمر يعرف الجميع تقريباً أنه خارج أي حسابات منطقية، لكن في الباطن فليست تلك سوى محاولة لابتزاز السلطة الجديدة في مصر، وتجريح القوات المسلحة المصرية.

لقد استطاعت جماعة "الإخوان" إقناع أعضائها وأنصارها بأنها تعادي إسرائيل وتستهدف تحرير فلسطين، وأن ما يمنعها عن مقارعة "هذا العدو" ليس سوى "الأنظمة العميلة" التي توالت على حكم مصر، و"لجمت" طموح الجماعة إلى تفعيل شعارها الأثير: "خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود". لكن ما جرى خلال عام تحت حكم "الإخوان" كان شيئاً معاكساً تماماً، ففي منتصف شهر أبريل من العام الماضي، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية تصريحات نادرة ومهمة لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال بيني جانتس، يؤكد فيها أن التنسيق الأمني بين القاهرة وتل أبيب "تحسن كثيراً" منذ وصول "الإخوان" إلى الحكم في مصر.

ليس هذا فقط، لكن داني دانون، نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، وصف العلاقات الأمنية المصرية- الإسرائيلية في فترة حكم "الإخوان" بـ "الأفضل" بين الجانبين، أما عاموس جلعاد، المسؤول الرفيع بالوزارة نفسها، فقد نقلت عنه صحيفة "نيويورك تايمز" قوله: "إن التزام مصر باتفاق السلام معنا تحسن وصار أكثر كثافة" في عهد "الإخوان". ستكون المسألة أكثر وضوحاً إذا تذكرنا في هذا الصدد نص الخطاب الذي أرسله مرسي لنظيره الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز، وهو الخطاب الذي وصفه فيه بـ"الصديق الوفي"، وتحدث فيه عن إسرائيل باعتبارها "دولة صديقة"، راجياً لها "التقدم".

وسيزداد الوضوح بالطبع حين نتذكر كيف أشاد الأميركيون والإسرائيليون في أرفع المستويات بما فعله مرسي أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة في 2012، حيث تدخل الرئيس المصري آنذاك بشكل أدى إلى نهاية الأزمة عبر هدنة حافظت على الأوضاع مستقرة حتى الأسبوع الماضي.

فإذا كان هذا هو ما فعله "الإخوان" حين كانوا في سدة السلطة في مصر، فلماذا يريد مشعل من السلطة الراهنة أن "تظهر النخوة"؟

القرضاوي الذي "يتمنى الخلافة وتهفو إليها نفسه" لن يقبل بها إذا لم تأت على يد "الإخوان"، وأردوغان الذي أتى إلى الحكم بالديمقراطية، سيستخدم وسائلها من أجل تحويل زعامته إلى "سلطنة استبدادية" جديدة، أما مشعل الذي شكر مرسي على عقد الهدنة مع الإسرائليين لإيقاف عدوان 2012، فإنه ينتظر من السيسي أن يشن حرباً على إسرائيل في 2014.

"الإخوان" مراوغون، ويقولون ما لا يفعلون.

* كاتب مصري