1. الشاعر العراقي لا يكتب قصيدة حب لوطنه ما دام مقيماً فيه. بل هو يهجوه وجهاً لوجه، ويُنكره، ويُعلنُ براءته منه. قصيدةُ الحب يكتبها حين يكون بعيداً في منفاه. وما أكثر ما كان الشاعر العراقي منفياً! يستعيد «دجلةَ الخير»، و»يغني تربته الحبيبة»، ويمني النفسَ بأن «يتخفّاه عصفوراً فلا يعرفه أحد». ولا يخفى عليّ، أنا العراقي، سرُّ ذلك. فالوطن فكرةٌ وتجريد، ومكانُه وزمانه مادتان لا وعي فيهما فيستحقان هجاءً وشجباً. إنما الوطن هو ناسُه وأحياؤه. وهما مثله لا حولَ لهما ولا قوة في مواجهة التاريخ، فيستحقان ذاك الهجاء وذاك الشجب. نهّازةُ فرصِ السياسية والقبضِ على السلطة هم الذين يتصدرون التاريخ لتمثيله، فهم في هذا العضليون الأكثر مهارة. الذين يخشون، حين ينتصف الليل، الوقوفَ أمام المرآة ليروا كيف تعود أضافرهم مخالبَ وأسنانُهم أنياباً. هم الذين يلقّنون عقولَ الناس وألسنتَهم، بأن الوطنَ هم، وهمُ الوطن. وإذا حدّق أحدٌ في الفاصل بينهما فسيرى خيطَ الدم الذي لا يتوقف عن النزف. هم المستعدون للمعترك الدموي من أجل سلطةِ الوحل، ويُعيدون كتابةَ الماضي على هواهم، ويُهيّئون الكتَبةَ لذلك. والشاعرُ ما دامَ تحتَ ظلالِ أجنحةِ الوطواط، وخناقُه في القبضةِ الدامية، فلنْ يجرؤ على هجائهم، وإنكارهم، وإعلان براءته منهم. فما أسعده في هجاء وإنكار الوطن إذن!

Ad

لم يكشف تاريخُ العرب الحديث عن وطنٍ جاحدٍ بحق أبنائه كجحود العراق. ولم يعرفْ قبضةً داميةً لا رحمةَ فيها، وهي تشدّ على خناق أبنائها كقبضة العراق. ولا غرائزَ متدنيةً، تأكل المالَ الحرام، وتستعذبُ مخاضةَ الدماء كغريزة العراق. والعراقُ، كما عرفتَ، ليس دجلةَ والنخلةَ وبائعةَ اللبنِ الرائب.

2. العراقُ يملكُ من الثروة ما تملك دولُ الخليج جميعاً، والنسبةُ الكبرى من أبنائه تحت خطّ الفقر. العراقُ حاضنةُ النخل، أشرفَ الشجر، والنخلُ كبائعة اللبن الرائب معلولٌ، وكبدُه نائح. والعراقُ هبةُ نهرين حلّا فيه من أرض الفردوس الكريمة، ولا سابح ولا أسماك. والعراقُ موطنُ الشعر، وشعراؤه «سِفرُ أيوب»، لن ترى عذابَ «السياب» إلا صفحةً محترقةً من صفحاته. والعراقُ أجحدُ وطنٍ عرفه العرب، وعرفه العالم. والعراقُ يزعم، ويُلحّ في الزعم، عبر مخاضةِ دمائه، بأن العلةَ كامنةٌ في الأصابع الأجنبية. وأنه مُبرّأ من فقرِ فقرائه، ونواحِ نخيله، ووحشةِ نهريْه، ومرارةِ شعرائه. وهو لا يكفُّ دونَ حياء عن نهبِ المالِ الحرام، وأكلِ لحمِ أخيه ميتاً، والطربِ لمغانم هذا السبي العجيب.

3. «أثْقلتني الفِتَنْ،

فكمْ شَاهدٍ في ثيابي وكمْ قاتلِ لا أسميّهِ، كمْ أتبددْ.

وإذْ أترددُ محترساً من رَدَاءةِ طَبْعي ومن تَركاتِ الوطنْ،

يدايَ تَهُمّانِ، فيما أرى البحثَ عنْ أصدقاء جُدُدْ

وعن ألفةٍ يتطلّبُ جُهداً ومعْنى، فتنْطفِئانِ.

تَفرّدتُ في كلِّ أسئلتي حولَ معْنَى الوَطَنْ

فلمْ أرَ في زُرقةِ الأسئلة

سِوى قطْعة الثلجِ بَيْضاءَ!

آلفتُ، عندَ مَرَاياهُ، وجهاً شبيهاً بوجهي فما يَثِقان.

تعاطيتُ حِرفةَ كلِّ الخُمورِ، وكلِّ الطيورِ،

وحينَ سمعتُ نداءً يداهِمُني في القَصَائدْ

طويتُ رصيفا

يَدي في جيوبي، وفي الشَّجَرِ الطيرُ، والموتُ واحدْ.

....

صَديقي دَعِ الموجَ يُطفئ ذاكَ الظَّمَأْ.

ودعْ كلَّ شَمْسٍ تَعّرفْتَها في ظلامِ المَخَاوفِ توِقدُ ثانيةً ما انْطَفَأ.

وَدَعْ نجمةً، سَقَطَتْ عندَ موتِكَ عمياءَ قائمةً في الصدأ،

تُعيدُ إلى وطنٍ، لمْ يَعُدْ غيرَ أشلاءَ، هذا السؤالْ:

لماذا يُذكّرني نَهْرُ دجلةَ بالموتِ والفَجْرُ بالاعتقالْ؟

ودعْ أصدقاءَكَ من غادروكَ إلى النفْي أوْ سَقَطوا في المَكائِدْ

يُحيطونَ موتَكَ بالاحتفالْ». (من ديوان «عثرات الطائر» 1985)