بدأت القضية بواقعة في غاية الغموض. تلقت المباحث المصرية بلاغاً من طبيب معروف قال فيه إن مديرة منزل أحد رجال الأعمال استدعته، ظناً منها أن صاحب المنزل يعاني من غيبوبة، إلا أنه بالكشف الطبي تأكد أنه فارق الحياة، ويرجح أن تكون الوفاة بسبب تناول مادة سامة إذ يظهر بعض العلامات الدالة على ذلك في أجزاء من جسد صاحب الفيللا. سارعت المباحث إلى مسرح الواقعة. كان المتوفي جالسا في مقعده في صالة الاستقبال في منزله، بينما سماعة الهاتف تتدلى من يده إلى الأرض، وبإجراء المعاينة الظاهرية للجثة لم تظهر أي آثار للعنف أو المقاومة.

Ad

لم تجد المباحث ما يثير الانتباه سوى اسم امرأة محفور فوق صدره ناحية القلب، {وشم} يكشف الكثير، وهنا بدأت الأسئلة تتوالى، والألغاز تطرح نفسها بقوة باحثة عن الحل، معاينة مسرح الواقعة كشفت أيضاً وجود قطعة من الحلوى تم التحفظ عليها، بعد العثور عليها فوق مائدة صغيرة أمام رجل الأعمال عاطف، بشكل يؤكد أنها كانت آخر ما تناوله، ربما تكون هي المطية التي دخل السم بها إلى جسد عاطف فقتلته. داخل الثلاجة كانت قطعة أكبر من الحلوى ذاتها تم التحفظ عليها أيضاً، بينما كانت حجرة المكتب مبعثرة، الأدراج مفتوحة والأوراق والمستندات متناثرة فوق الأرض، والخزانة تعرضت للكسر حتى انفتح بابها وتم العبث بمحتوياتها، يبدو من المعاينة الأولية أن شخصاً ما كان يبحث عن شيء يخصه والقتيل.

ويلتقط ضابط المباحث من خزانة حجرة نوم المتوفي أجندة خاصة، كان واضحاً أن صاحب الفيللا يحتفظ بها بعد أن يدون فيها بعض مذكراته بين حين وآخر. نظر ضابط المباحث فيها نظرة سريعة، فرأى بعض المعلومات المتناثرة التي قد تفيد مسار البحث الجنائي وكشف غموض وفاة عاطف، فقرر التحفظ عليها إلى حين فحص ما تتضمن من معلومات بشكل كامل.

التحريات لم تقل إثارة، أثبتت أن عاطف كان يعمل موظفاً في إحدى الإدارات القانونية في شركة استثمارية، لثلاث سنوات فقط، ثم استقال بعد وفاة أبيه وتفرغ لشركة السياحة التي ورثها عنه منفرداً. وبعدها تزوج ثلاث مرات، طلق الأولى بعد عامين وبعدما أنجب منها ولداً، وطلق الثانية بعد زواج لم يدم غير ستة أشهر، من دون أن ينجب منها، بينما طلق الثالثة بعد زواج خمسة أعوام وأنجب منها بنتا. أما علاقاته غير الشرعية فلا يمكن حصرها، فهو زير نساء بامتياز.

كان خفير الفيللا مرعوباً، أكد وهو يجهش ببكاء مسموع، أن {عاطف بك} كما يطلق عليه، لم يزره أحد يوم الحادث، وأن امرأة ترتدي ملابس تشبه النقاب وتخفي جميع ملامحها زارته قبل الحادث بيوم واحد، وكانت تحمل قالب الحلوى وهو لم يرها سابقاً ولا يعرف اسمها أو ملامحها. كانت امرأة مجهولة، وأضاف الخفير أنه ظل مندهشاً لأن عاطف لم يخرج كعادته ليلة الحادث ولم يستدعه حتى اكتشفت مديرة المنزل وفاته، بعد حضورها صباح اليوم التالي واستدعائها للطبيب.

ووسط بكائه كشف الخفير معلومة مهمة، فقال إن {عاطف بك} كان يضايقه هواء التكييف فيلجأ إلى فتح نافذة حجرته الخلفية، وأن الجناة لا بد من أنهم استغلوا هذه النافذة في الدخول إلى الفيللا من الخلف. وعن النساء اللاتي يترددن على الفيللا بخلاف المرأة المنتقبة، أوضح الخفير: {أشكال وألوان يا بيه، لكن العدد كان يتناقص في الفترة الأخيرة، ولا أعرف السبب}، استدرك قائلاً: {البيه كان حنين أوي عليا}.

امرأة مهمة

فجَّر الخفير مفاجأة من العيار الثقيل عندما قال في التحقيقات إن مطلقات رجل الأعمال انقطعت علاقتهن بزوجهن السابق، وهو ما أيدته فيه مديرة المنزل، ذلك أن رجل الأعمال كان حريصاً على ألا يكون بينه وبين إحداهن أي اتصال، بل لم يكن يسأل عن ابنه أو ابنته، ومرة أخرى تأكدت هذه الأقوال بشهادة المطلقات في التحقيقات، كان طريقاً مسدوداً لم يضف إلى القضية أي جديد، ولم يقدم أي أدلة تسمح بتوجيه اتهام إلى أي من المطلقات الثلاث.

ركزت المباحث في اتجاهات عدة، لكن الاتجاه الأكبر كانت تحل ألغازه أجندة القتيل، التي حملت صفحات أشارت بقوة إلى وجود امرأة مهمة في حياة رجل الأعمال، اسمها {آمال}، وهو الاسم نفسه المحفور على صدره بماء النار منذ سنوات، وكان يشير إليها في صفحات مذكراته بالتصريح باسمها أو ضمناً حسب السياق.

وفي إحدى الصفحات كتب يقول: {ما زالت تجري في عروقي مجرى الدم. لم تعوضني عنها عشرات النساء، فشلت في أن أحب منهن امرأة واحدة. لم أحتمل الحياة مع أي من زوجاتي الثلاث، لأن شبح آمال كان يطاردني دائماً حتى في تلك اللحظات الخاصة في حياة أي زوجين. نزواتي لم يعد لها طعم لأن آمال امرأة غير النساء، لا يمكن أن أسمح لهذا الحب الكبير أن يدمرني بابتعادها عني. مشكلتي ومشكلتها الوحيدة أن زوجها كان ولا يزال من أصدقائي، لكني أكرهه منذ تزوجها من دون أن يعرف قصة الحب الكبير الذي جمعني بها من أيام المراهقة في حي الحلمية!!... لا بد من أن يطلقها بأي ثمن... ولا بد من أن أتزوجها بأي ثمن}.

وفي صفحة أخرى يقول: {لم أصدق نفسي عندما استجابت لدعوتي وجاءت تزورني للمرة الأولى بعد كل هذه السنوات المظلمة، لم أصدق أذني وأنا أسمعها تعترف بأنها لم تحب قبلي ولا بعدي، الشيء الذي آلمني أنها لا تريد أن تغدر بزوجها بطلب الطلاق، وآلمني أكثر أنها أكدت لي أن زيارتها لن تتكرر، وأنها لا تريد أن تضع نفسها موضع الشبهات، لم أنم بالأمس بسبب مرارة كلماتها}.

وفي صفحة رابعة يكتب: {لا أعرف كيف تصرفت بهذه النذالة والخسة، أجبرتها على زيارتي مرة أخرى بعد أن هددتها بما تحت يدي من خطابات وصور وذكريات، جاءتني تبكي وترجوني ألا أخرب بيتها. لكن أسعدني أنها وعدتني بأن تفكر في طلب الطلاق، لقد تغيرت نبرات صوتها وهي تحدثني صباح اليوم، وتؤكد أنها لم تنم ليلتها أيضاً، وأنها ظلت تفكر في زواجنا بعد الطلاق، بينما كان زوجها يغط في نوم عميق إلى جوارها ويتعالى شخيره وكأنه يعترض على ما تفكر فيه. المهم أنها وعدتني بزيارة أخرى حينما يسافر زوجها إلى الإسكندرية ليترافع في جناية مهمة، لكني لا أعرف لماذا لم أصدقها هذه المرة؟}.

سر النقاب

بدأت تحريات المباحث تلقي مزيداً من الضوء على الأحداث الغامضة، وشيئاً فشيئاً بدأت في ربط الخيوط ببعضها البعض، بحث رجال المباحث بين أصدقاء عاطف حتى توصلوا إلى {خيري} المحامي الشهير المتزوج من السيدة آمال، التي كانت جارة للمجني عليه في حي الحلمية قبل 15 عاماً. أما تقرير الطب الشرعي فقد أثبت أن رجل الأعمال مات قتيلا بالسم الذي دس له في قالب الحلوى، ولم يعد أمام المباحث سوى البحث عن القاتل سواء كان رجلا أو امرأة، لكن أصابع الاتهام بدأت تشير إلى {آمال}.

استدعت المباحث آمال أثناء سفر زوجها إلى الإسكندرية في مهمة عمل، وواجهتها بعلاقتها بالقتيل، وما كتبه عنها في أجندته الخاصة، بعد طول صمت تحدثت {آمال} أخيراً، ودون أن تهتز لحظة، قالت:

{نعم كان بيننا هذا الحب الكبير أيام كنا نسكن في الحلمية، وافترقنا مثلما يفترق أي حبيبين، وكان نصيبي أن أتزوج رجلاً محترماً كان بالنسبة إلي زوجاً مثالياً، وحينما حاول عاطف إحياء الماضي وشممت من اتصالاته بي رائحة الغدر، بعدما هددني بفضح علاقتنا القديمة، ذهبت إليه أرجوه ألا يخرب بيتي، لكنه ظل يهددني بما تحت يديه من ذكريات لو أطلع عليها أي زوج لن يتردد في تطليق زوجته}.

تابعت آمال: {لم أفقد أعصابي نظراً إلى حساسية الموقف وظللت أمنحه الأمل بأنني سأحصل على الطلاق وأتزوجه. فعلاً حاولت، لكني لم أجد لدى زوجي عيباً أو مبرراً واحداً يجعلني أتبجح وأطلب الطلاق، هذه كل حكايتي مع عاطف، وليكن في علمكم أن هذه التحقيقات وحدها كفيلة بأن تخرب بيتي، أعرف أن من العدالة أن تبحثوا عن القاتل، لكن ليس من العدالة أن تخربوا بيت زوجة بريئة}.

طمأنها رئيس المباحث أنهم يتصرفون بمنتهى الحذر، لكن عليها أن تساعدهم وتتعاون مع رجال المباحث، وترد على أسئلتهم بكل وضوح وصراحة... وسألها: {هل تعرفين الصحافي فتحي؟}.

قالت من دون تردد: {أعرفه مثلما يعرفه كثيرون، كان زميلاً لي في كلية الحقوق، ومن أقرب الأصدقاء إلى قلبي، وكان زميلاً لزوجي وصديقاً له أيضاً. لكن لماذا تسألونني عن فتحي؟ هل له علاقة بالجريمة؟}.

• ثمة صفحة أخيرة في أجندة القتيل يقول فيها إن فتحي زاره، وطلب منه أن يبتعد عنكِ، وألا يدفعكِ إلى تصرف طائش تهدمين به المعبد على رؤوس الجميع، وقال في هذه السطور إنه غاضب منكِ لأنه واثق من أنكِ لجأت إلى فتحي وكشفت له ما بينك وبينه في الفترة الأخيرة.

أصابت المفاجأة آمال بالارتباك، قالت: {نعم، لجأت إلى فتحي ليبعده عني، ووعدني بذلك}.

سألها رئيس المباحث، وقد بدأ يشعر بأنه أمسك في يده بأول خيوط الجريمة: {ما حكاية النقاب وقالب الحلوى؟}.

قالت: {لا علاقة لي بهما، الأمر يبدو ملتبساً. أنا لم ألبس النقاب طوال حياتي، ولم أصنع تورتة في بيتي كما تزعمون، ولم أذهب إلى بيت عاطف في الأوقات التي شاهد فيها الخفير امرأة منتقبة، لا أعرف عن هذه الأشياء}، إصرار آمال على الإنكار، دفع المباحث إلى إحالتها إلى النيابة، خصوصاً أن الأدلة كافة تشير بوضوح إليها هي وصديقها فتحي.

كاميرا تحل القضية

 حضر زوج آمال من سفره لحضور التحقيق والذهول يملأ ملامحه، وواجهت النيابة آمال بمفاجأة من العيار الثقيل، أبلغتها أن المباحث أجرت معاينة ثانية لمسرح الواقعة فعثرت على كاميرا صغيرة ثبتها القتيل في حجرته الخاصة وصورت هذه الكاميرا السيدة المنتقبة، وهي تقطع قالب الحلوى وتقدم قطعة كبيرة منها إلى القتيل، وتخبره بأنها لم تنس عيد ميلاده، وأنها صنعت له هذه الحلوى خصيصاً بيدها ليحتفلا معا. وسجلت الكاميرا أيضاً حديثاً للقتيل وهو يطلب من السيدة المنتقبة ألا تزوره مجدداً بهذا الزي، لأنه يحرمه من رؤية جمالها فردت عليه بأنها أصبحت تخشى مراقبة زوجها لها، فاضطرت إلى هذه الحيلة لتكون في أمان أثناء زيارتها له.

وجاءت إجابات آمال كالعادة تنفي الاتهام، وتتساءل كيف يتهمونها والمرأة التي تظهر في التسجيلات منتقبة لا تظهر لها أي ملامح، ورد رئيس النيابة بأن خبراء الصوت سيبدأون فوراً إجراءات مهمة بعد أخذ عينة من صوتها ومضاهاتها بصوت السيدة المنتقبة.

لم تتأخر النتيجة، وقعت آمال في الفخ، الصوت المسجل صوتها، ومع ذلك أصرت على الإنكار، وتنحى زوجها عن الدفاع عنها أمام الجنايات التي قضت في النهاية بإحالة أوراقها إلى فضيلة المفتي، تمهيداً لإصدار الحكم بإعدامها.

لقاء في السجن

التقيت بها في سجن النساء، كانت تحمل رقم 215. في البداية كانت ترفض الحديث، وحينما شعرت آمال بأني مقتنع ببراءتها وافقت على الفور، ولم يخطر في بالها أنني أتحايل عليها لأسمع منها إجاباتها على أسئلتي، قلت لها:

• من الذي قتل عاطف؟

•• امرأة غيري، اسمها على اسمي، هذا هو سوء الحظ بعينه، أصبحت الآن أكره اسم آمال كراهية العمى.

• وهل تصل الصدفة إلى حد أن يكون صوتكما واحدا؟

•• وإيه المانع!

• الصحافي فتحي قال في شهادته إنك تفوهت أمامه كلاماً فهم منه أنك قد تريحي نفسك من هذا الإنسان إلى الأبد إذا لم يكف عن مطاردتك، ما تعليقك؟

•• ليس معنى هذا أن أقتله، ولا يمكن أن يتهمني فتحي بالقتل لأنه أكثر إنسان يعرف أنني امرأة لا تخون، ولا تقتل، كان فتحي وزوجي زميلين لي وكان زوجي قبل أن يرتبط بي يأتي مع فتحي إلى الحلمية وتعرف على عاطف من دون أن يعرف أن بيننا قصة حب كبيرة، وأنني قطعت علاقتي بعاطف بعد فضيحته مع إحدى الشغالات في شركته مما اضطره إلى الزواج منها في النيابة. أردت آنذاك أن أرد له الصفعة واقتربت من خيري وشجعته على أن يطلب يدي، لكنه بعد سنوات طويلة ظهر في حياتي مجدداً ظناً منه أنني ما زلت أحبه، هل شهد فتحي بأني قاتلة؟

• لا، لم يقلها صراحة، لكنه ذكر ما سمعه منك في زيارتك له في الصحيفة حيث يعمل.

•• كنت في لحظة غضب.

• ماذا ستفعلين بعد أن رفض زوجك الدفاع عنك؟

صمتت آمال برهة ثم تنهدت وهمست قائلة:

•• رجل غبي، كان بمقدوري أن أدوس على ضميري وأخونه ولا أعرض نفسي لهذه الأزمة، لكنه للأسف لم يقدر لي هذا الموقف. عموماً، حبل المشنقة سيكون أرحم من الأيام التي كنت سأعيشها وأنا زوجة خائنة، لكني أؤكد أنني أيضاً لست قاتلة أنا بريئة رغم أنف الجميع.

تركتها وتوجهت إلى رئيس المباحث في مكتبه، جلست معه وسألته عن الحركة العصبية التي تجعلها تضغط بأسنانها على شفتيها طوال حديثي معها فقال:

{هذه الحركة لازمتها منذ أن تم الكشف عن الجريمة، وعثور المباحث على ذكريات الحب القديم في خزانة الشركة، بينما كانت القاتلة تظن أنها في خزانة حجرة المكتب في الفيللا، فلما بعثرت محتوياتها لم تجد شيئاً من ذكريات الماضي فأصيبت بهذه الحالة، وعثرنا نحن على هذه الأشياء الخاصة في شركة حبيبها الأول، وكانت كلها مخجلة، تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنها القاتلة، وأنها تعاني أمراضاً نفسية تجعلها تنكر الحقائق.