كانت رحلة الباص المدرسي في الذهاب والإياب من المتع اليومية، فرغم قرب المسافة من البيت فإن مسار الباص كان يأخذنا في جولة دائرية كبيرة، وخاصة في بدء العام الدراسي وغموض بعض العناوين. ومن خلال هذه الجولة كنا نكتشف معالم مدينتنا الناشئة، فحيناً كان يتوغل الباص في أزقة (البدع) حيث البيوت العربية القديمة المتفرقة هنا وهناك، وحيناً ينحرف نحو أحياء أكثر أناقة وجدة حيث بيوت الموسرين والتجّار، وطوراً ثالثاً يأخذنا ناحية العمارات ذوات الطابقين أو الثلاثة حيث يسكن الفلسطينيون والسوريون. أما أمتع تلك الجولات وأندرها فهو مرور الباص في قلب سوق السالمية حيث المحال التجارية والفاترينات الزجاجية الأنيقة، التي كانت تبدو لنا كالحلم في تلك السن الباكرة.

Ad

ويبقى البحر هو المَعْلم الأكثر بروزاً في سيرة السالمية، فعلى ضفافه ترخي جسدها وتمدّ ساقيها، وعلى صدره يرقد رأسها المثقل بالأحلام والصخَب، وعلى شواطئها الليلية يلتقي المتنزهون والعشاق، والمتريضون والمتسكعون، والهاربون من الفراغ، والممتلؤن به. لا أعتقد أن من سكن السالمية لم يسكنه البحر، لأن البحر ببساطة يظل ضمن الخارطة الذهنية للذاكرة شئنا أم أبينا، رابضاً خلف الجدار أو متربصاً في عطفة الطريق. وحتى إن لم تذهب إلى البحر فسوف تجده وقد أتى إليك في حوش البيت. تشم رائحته في موسم البوارح وفي رياح الكوس الرطبة، وتتذوق ملحه في عرقك الذي ينزّ وأنت تستلقي فوق فراشك الصيفي في العراء. ومعظمنا لا يراوغ البحر كثيراً أو يطيل هجره، إذ سرعان ما نخرج إليه متطلعين إلى نسمة رائقة أو فضاء فسيح، أو ببساطة هاربين من حرّ البيوت وضيق الجدران.

تتغيّر السالمية على مرّ العقود، وتتغيّر الأحياء القديمة، وتشيخ البيوت، ويموت الكبار، ويرحل الأبناء إلى مناطق أخرى. ويبقى البحر راسخاً ومغرياً، والموقع أكثر جذباً للتشييد والبناء على أطلال ما تهدّم وانمحى.

وتتحول أراضي السالمية إلى كنوز وأرصدة عقارية تقدّر بالملايين، وإلى مشاريع بأرقام خيالية. وتأتي مع المشاريع أحلام التثمين لتداعب خيالات الفقراء والبسطاء ممن بقي من سكانها القليلين، أولئك الذين وجدوا أنفسهم في غربة مفجعة بعد أن استطالت حولهم الأبراج السكنية والمولات التجارية. الآن لا يقيم في السالمية من المواطنين إلا الجيل الثالث لأولئك الذين سكنوا السالمية مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وهؤلاء الأحفاد مازالوا يغالبون العيش في بيوت مهلهلة ضاقت مساحاتها وانتهى عمرها الافتراضي، رغم جهود الترميم والتحسين، على أمل أن يدركهم التثمين الذي طال انتظاره.

رغم ما يمكن أن يُقال من قصائد الغزل ومعلقات الحنين حول تاريخ السالمية، تبقى الحقيقة ساطعة حول النمو العمراني شبه العشوائي، وافتقاره إلى التخطيط والرؤية. فالمدينة غدت أشبه بغابة من الكونكريت والأضواء، يختلط فيها حابل الجديد بنابل القديم من العمارات والأسواق والطرقات الرئيسية والفرعية. وبات الحفاظ ولو على جزء يسير من أصالتها شبه مستحيل، في ظل توالي الهدم لأهم معالمها الأساسية كالمدارس والبنايات الشهيرة والبيوت التراثية التقليدية، فضلا عن الإهمال لأسواقها القديمة وقيصرياتها التي بدت في طور الاحتضار. ويبقى الأمر الأشد إيلاماً متمثلاً بنزوح سكانها من المواطنين، وبقاؤها بعد رحيلهم كالأرملة المتبرّجة الجاحدة الخائنة للعهد!

أعود من شريط الذكريات عن السالمية موطن طفولتي وصباي، لأشير إلى  أننا تركنا السالمية حوالي منتصف الثمانينات من القرن الماضي إلى ضواحٍ أخرى حديثة، بعد أن توفي الوالدان وتزوّج الأخوة وتزوجتُ، وبيع بيت الأسرة. ولكنني ما أزال أتردد على حيّنا القديم بين آونة وأخرى، بحجة زيارة الخيّاط النسائي الذي مازال صامداً رغم تغيّر الأحوال ودوران الأفلاك، والذي بدا أكثر وفاءً للفريج منّا جميعاً.

 ماذا يمكن أن يبقى من الزمن الجميل غير أغاني عتيقة لم تعد تُغنّى: "يا شواطي السالمية"، و"من الجهرة للسالمية"، ومسرحية فكاهية عن "عزوبي السالمية"، وصفصاف عجوز انحنت قامته وتقصّفت أغصانه، لكنه ما يزال أمامي - وأنا أجلس في المقهى– يغالب شيخوخته، متذكراً أنه ربما زُرع عام 1950م، ثم نُسي وأُهمل، حتى غدا بهذا المنظر الذي يثير الشجن. صفصاف عتيق يتوسط الرصيف الفاصل بين السالمية القديمة والسالمية الجديدة، يهزّه نسيمُ المساء، ويكنس أوراقه المتساقطة بلا جلبة أو ندم.