هناك من يعتقد، ويدافع عن هذا الاعتقاد، أنه ما كان على الفلسطينيين أن ينخرطوا في هذه المفاوضات الجديدة، التي حددت فترتها الزمنية بتسعة شهور، مادام الوضع العربي هو هذا الوضع المزري، ومادامت "الأولويات" العربية غدت "مُنْصبَّة" على ما يجري في العراق وسورية ومصر واليمن وتونس ولبنان، وبما أن هناك أخطاراً فعلية من تشظيات وانقسامات مقبلة قد تحول هذه المنطقة إلى دويلات طائفية وعرقية متحاربة، على غرار ما كان عليه الوضع في إسبانيا عشية انهيار كل كياناتها وطرد العرب والمسلمين منها شرَّ طردة.

Ad

والسؤال هنا هو: متى كان العرب بعد بروز دولهم ودويلاتهم هذه في أعقاب الحربين العالميتين، الأولى والثانية، بل قبل ذلك بمئات السنين في أحوال أفضل من هذه الأحوال المزرية التي أغرت كل الطامعين في العالم كله بالعبث بالأمن القومي والوطني العربي، بل قضم أجزاءٍ عزيزة من بعض الدول العربية؟!

إذا كان هناك من يحن إلى أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي عندما كان الفعل العربي مجرد ظاهرة صوتية ومجرد مراجل فارغة فإن عليه أن يتذكر أن إسرائيل قامت عام 1948 واستكملت عام 1967 احتلال ما تبقى من فلسطين وفوق ذلك كل سيناء حتى قناة السويس وكل هضبة الجولان التي لاتزال محتلة وتَرَكَها الذين سلموها للاحتلال ليتفرغوا لقتال شعبهم في حلب ودير الزور ودرعا وحمص وإدلب وحماة والرقة كما تفرغوا قبل ذلك للهيمنة على لبنان وإذاقة شعبه الأمرين. فلماذا هذا الحنين إذاً وقد أوصلتنا تلك المرحلة البائسة إلى هذا الواقع الذي ليس هناك بؤس أكثر منه ولا أسوأ؟!

ولهذا فإنه يمكن القول إن الوضع الفلسطيني لم يكن على الإطلاق أفضل مما هو عليه الآن، فـ"المقاومة" بعد حصار بيروت الذي استمر ثلاثة شهور، بدون إسناد عربي فعلي،  انتهت في تونس وانتهى مقاتلوها في اليمن، وقد سبق ذلك الحرب العراقية-الإيرانية وتبعتها مأساة احتلال الكويت التي مزَّقت العرب "أيدي سبأ" وشتت شملهم وأوصلت العراق العظيم إلى هذه الأوضاع المأساوية المرعبة.

ما الذي يمكن أن ينتظره الفلسطينيون ليسمعوا نصائح الذين يتفرجون عن بعد ويديرون ظهورهم إلى العالم ويركلون هذه المفاوضات بأرجلهم، ويعتبرونها مضيعة للوقت؟ فأي وقت هذا الذي نخشى إضاعته. هل هو وقت الانقلابات العسكرية والظاهرة الصوتية والمراجل الفارغة ووقت الشعارات البراقة والأفعال المخزية. ما بديل هذه "العملية السلمية" التي لا يمكن أن يراهن محمود عباس "أبو مازن" عليها ويطاردها دون كلل ولا ملل لو أن طلائع الزحف العربي تلوح ولو في الأفق البعيد؟!

الآن أصبح الرأي العام العالمي إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته، والآن هناك اعتراف من قبل الأمم المتحدة بدولة فلسطينية تحت الاحتلال، والآن غدت فلسطين عضواً فاعلاً في أهم الهيئات الدولية والآن هناك "قرفٌ" عالمي رسمي وشعبي من الإسرائيليين وقادتهم وعجرفاتهم وهناك رفض لاحتلالهم ومستوطناتهم وممارساتهم الهمجية ضد الشعب الفلسطيني.

وكنتيجة ومحصلة لكل هذا فإن هناك الآن هذا الاشتباك الجاد والفعلي بين بنيامين نتنياهو وحكومته مع الإدارة الأميركية ممثلة بوزير خارجيتها جون كيري. والآن هناك كل هذه الشتائم التي يكيلها رئيس الوزراء الإسرائيلي للأوروبيين لأنهم يرفضون سياساته الاستيطانية ولأنهم لا يعترفون بالمستوطنات، ولهذا فيجب استغلال هذه الفرصة، وهذه الظروف، لإحراز المزيد من المكاسب السياسية لقضية فلسطين وتوسيع الهوة بين العالم والدولة الإسرائيلية.