لا أعتقد أن وزير الداخلية ولا كبار الضباط في هذه الوزارة المرعبة يدرون أو كان لهم علم مسبق بمطالبة الوزارة لأسرة الشهيد راشد الوعلان بمبلغ 142 ديناراً كثمن المسدس العهدة الذي كان عند الشهيد قبل الاحتلال، لكن "جهازاً ما" داخل هذه الوزارة، وبكل مؤسسات الدولة دون استثناء، لا أحد يستطيع أن يؤشر عليه ويحدده، قرر إجراء تلك المطالبة المضحكة والمحزنة في آن واحد، عندما طلبت عائلة الوعلان شهادة براءة ذمة للشهيد من الوزارة. من الطبيعي أن يكون تبرير الناطق الرسمي لشذوذ وقبح تلك الواقعة بأن هذا ينبع من حرص الوزارة على المحافظة على المال العام...! لا أدري إن كان يجب أن نضحك أم نبكي على هذا التبرير...

Ad

قضية أخرى، لم أعلم بها، هي واقعة سحب جواز سفر النائب السابق وليد الطبطبائي، وبالتالي فهو منع من السفر لغير دول مجلس التعاون "الأمني"، حتى صدر حكم المحكمة الإدارية الرائع الذي حظر في أسبابه تقييد حرية التنقل للإنسان بغير الضوابط القانونية وألزم الوزارة، بالتالي، برد الجواز... وكانت حجة مصادرة الجواز عند وزارة الداخلية هي ظهور وليد الطبطبائي في صور مع الثوار السوريين، وإطلاقه شعارات لعودة الشرعية لمصر، ودعوته إلى إسقاط نظام بشار الأسد... تم سحب الجواز لوليد بكل بساطة لأن "جهازاً ما" في هذه الوزارة، قرر ذلك، وحصل على تفويض من مسؤول كبير أو (ربما) بارك مثل تلك الخطوة... هناك بالتأكيد غير وليد الطبطبائي، لا نعلم عددهم سحبت منه وثائق سفرهم... وكأنهم أرقام نكرة في سجلات الدولة، وهم لا حول لهم ولا قوة، وقد يصعب عليهم طرق أبواب المحاكم... ماذا يمكنهم أن يفعلوا أمام طاغوت ذلك "الجهاز ما"؟ لا شيء.

الحكاية الأخيرة هي ما ذكرته جريدة الجريدة، أمس، حين منعت وزارة الداخلية حفلاً للطائفة المارونية اللبنانية بمناسبة دينية خاصة بهم، أو أوقفت الحفل، لماذا حدث ذلك لغير السبب المعروف بالمزايدة على الجماعات المتزمتة وإظهار الوزارة وسلطة الحكم بجلباب التقوى والفضيلة...؟ السبب هو ذلك "الجهاز ما" قرر ذلك ونفذ... ليس (ربما) بأوامر عليا، ولكن بمزاج منفرد من ذلك الجهاز.

هذا "الجهاز ما" اسمه الدولة العميقة، هو عبارة عن منظمة غير ظاهرة رسمياً تعشعش في أجهزة الدولة، وتصبح حكومة وسلطة موازية لسلطة الدولة الرسمية. محمد نصير، في جريدة "ديلي نيوز" المصرية عدد 16 نوفمبر الماضي، وضع تعريفاً رائعاً لها أترجمه "هو ذلك الجهاز الذي يشمل كل مؤسسات الدولة ومنظماتها وحتى المنظمات غير الحكومية، والتي تملك تأثيراً على قرارات السلطة (يقصد القوى المتنفذة)، فهو كل تلك الإدارات التي توظف جهازا بيروقراطيا بالغ التعقيد ويمارس سلطاته اليومية بذات التعقيد، ويتصف هذا الجهاز بتضخم العاملين لدرجة كبيرة به وقلة إنتاجهم...".

هذا الجهاز يصبح رمزاً للفساد الإداري والمالي ورداءة الإنتاج، ويظهر لنا كوحش فرانكشتين يثير الرعب في نفس كل واحد منا حين يريد مراجعة أي إدارة حكومية لقضاء أبسط معاملة، فيخنق المراجع، بطلبات وأوامر لا تنتهي ولا تكون ذات جدوى، ولكنه (الجهاز) يتحجج بالقانون واللوائح والأوامر العليا... وفي النهاية يتم في أروقته هدر كرامة الإنسان، وتنحر ذاته ببطء... لتذهب هذه الدولة العميقة للجحيم... ولتكف السلطة عن رعايتها لهذا الابن الغولي.