«نجمة» هي الرواية التي يقول عنها كاتب ياسين: هل ماتت روحها الجزائرية لأنني كتبتها بالفرنسية، والتي تعتبرها فرنسا من أروع ما كُتب في الأدب الفرنسي وتدرس في مدارسها بينما يتم إقصاء كاتبها وتغييبه في بلده الجزائر!

Ad

نجمة» هي الرواية التي ترتبط بسيرة حياة كاتب ياسين والتي جعلت اسمه يلمع في عالم الأدب هنا مقطع منها...

I

حكم على القاتل الذي كان يدعى بطيبة خاطر «صديق رشيد» بعشرين سنة من الأعمال الشاقة، فكر بعضهم دون إفراط في البوح بأن «جريمة ثالثة تهدّد رشيد، ألم يُقتل أبوه قبل ولادته؟ وها هو أحد أصدقاء رشيد يرتكب جريمة قتل أخرى... سيتكلم رشيد في الحلقة الثالثة».

هكذا فكر ضراء قسنطينة، المدينة التي تُلتهم فيها الروايات البوليسية أكثر، دون أية مقارنة ممكنة بمدينة أخرى في العالم. كان الحضريون الذين فكَروا مليّا في حالة رشيد هم آخر من أقلقوه، حتى عندما شهد، لمّا أحيط عند مخرج المحكمة، أنه لم يُضايق فوق الحدّ. شوهد يتبادل إشارة مع المتهم، يمرّر له السجائر بوساطة المحامي:

لا شيء يدعو إلى الدهشة.

كان الصديق في سجن الأشغال الشاقة. لم يعد رشيد يبحث عن عمل، وما ترك الفندق حيث غامر بعد فترة، ظنها شافية، في بيت أمّه التي ماتت أثناءها، عندما كان موظفاً «في مكان المأساة» كما قال الصحفيون، الأمر الذي أضحك رشيد.

ليلتان بعد الجريمة، عاد في قطار قسنطينة وانعزل في المأوى الأمومي، ليخرج في اليوم الخامس ويتجه إلى بيت عبد الله....

استاء الناس، كانوا يلومونه على التنكر لعائلته ومعاشرة طبقة اللصوص، هو الذي لم يستطع فعل أيّ شيء من أجل الانتقام للمرحوم المبجّل جداً، الذي كان يثير الصخب في ما مضى، ولكن صيته ذاع جرّاء ميتته المأساوية، فاكتسب نكهة الخرافة. كانوا يتحدثون عنه كشهم قُتل في ربيع العمر من منافس أقل شهرة... لم يبحث رشيد عن القاتل وحسب، «قتل أبوه بطلقة بندقية في مغارة»، بل أصبح صديق قاتل آخر، غارقا في الفساد، محتقراً في مقام العامل اليدوي، ثم بطّالا لا يعيش إلا بالقنُب، هو الآن معلم الفندق، منبوذ منتصر في مواضع الانحطاط. كان الناس يستاءون من ملاقاة رشيد رفقة المحكوم عليهم سابقاً، البطالين، المتشردين، الذين بلا أوراق ثبوتية، أنصاف المجانين كهذا العبد الله الخارج من الملجأ دائماً، هو أوّل من ارتبط برشيد من جديد، في اليوم الخامس الذي أعقب عودته من «مسرح الجريمة»، كما قال الصحفيون.

II

كانت لأحد أولئك الكتاب الرديئين، الزائغ، البالي اللباس، هيئة كاتب عمومي، اكتشف فندق عبد الله الذي اقترح عليه أخذه إلى الفندق الآخر حيث أقام رشيد بفضله حديثاً. في ذلك الوقت لم يعد رشيد يغادر المحششة إطلاقاً. فوّض له عبد الله أمر التسيير. كان العمل بسيطاً، يكفي تحضير تبغ الغليون، إفراغ الشاي، قبض المال، ووجد الصحفي رشيداً مفتوناً في الخمّارة، جنب السّديم. ثمة اليوم فسيفساء ترصّع أسفل الحيطان، على طول محيط القاعة.

كان للمدخّنين المحتدّين ورشيد، المسيّر المنيع، الحق الاستثناني في ولوج الشرفة المصنوعة من الحديد المطرّق، المصبوغ بالأخضر مؤخراً، في الإكفهرار المشعّ للّجة، ما بين اليمامات واللقالق والتين البرّي، إنه قلب المدينة، سِنخ الصخرة، رواح عنكبوتي على اللّجة، وبدت الشرفة سريرا معلّقاً مبهظاً بأشباح خاشعة أمام فراش موت النهر، في غليان شواهد القبر الصامدة بيأس أمام المد النادر (للرمال) ذي القوى المعلّقة دائماً، هو الذي لا يتلقى سوى أمطار قليلة بلا اتفاق، مثل حقنة دم لشيخ عظامه ممددة مجففة... لم يعد رشيد يفارق الفندق، جؤجؤ الحديد المطرّق، جوّ الحبق البعيد الغور، أرز نهاية جويلية، العتمة على حافة الجرف، منخارا رشيد المترعان نعناعاً، والصحفي (أو الكاتب) المقبّب أمام زهرة الزنبق الوحيدة، قرب من المِطيرة: النعناع والزنبق، الشاي الأخضر المصفوق ببطء، المسودّ مع البرودة على خلفية سكّر لم يذب يوماً، لأن وقت الشاي بالنعناع كان ليلاً نهاراً في شرفة أقفلت منذ عهد قريب جداً، في شكل تحدّ، ومن فوق اللجّة تتأمل قسنطينة نهرها الناضب.

III

مدينتان، تمتم رشيد، لا أعرف إلا اثنتين: المدينة التي ولدت فيها (لم يكن عليه إلا الانحناء برأسه على قدح الحبق، والجنوح جانباً ما بين النبتة الكثيفة وحدر الشرفة، سوى بالتثبت والحيّاد قليلا عن هذا الصحفي الأكثر بؤسا من كاتب عمومي. كان رشيد يستنشق هواء الأرز المنعش الذي سقط قدّامه جسد والده الذي قتل ببندقيته الشخصية)... المدينة التي ولدت فيها، هنا، في الجزء الأعلى من الغابة حيث المجرم....

- ولكن الجريمة الأخرى... لا ترجع إلى الوراء كثيرا، قال الكاتب.

- مدينتان غاليتان عليّ: المدينة التي ولدت فيها....

أخذ الكاتب غليونه.

- والمدينة التي فقدت النوم فيها، على الحافة الأخرى للنهر، هناك في السهل، رفقة الشيخ الشرّير الذي كان يبحث عن ابنته، والذي قُتل...

- قُتل؟

- نعم، من قبل زنجيّ قبيلتنا، كان سي مختار قد أقدم على اختطاف ابنته، ابنته الأصلية، ولكن الزنجي لم يُرد تصديقه، ولبد أمام البريد ببندقيّته..

- جريمة ثالثة؟

- في يوم عاصف بالأدغال، منطقة أكثر توحشا من هذه... وأطلق الزّنجي الرصاص على الشرّير، ولكن الرّعد كان هائجا، ومرّت الطلقة كحلم، لم أسمع شيئا...

- ولكن مرادا؟

VI

استدار رشيد أكثر. كان ينظّف غليونه ويذرّي الرمّاد في الفراغ.

قدّم الكأس للكاتب واسترجعها بعد برهة، كانت الجبهة مستندة إلى حافة الشرفة الباردة وقد ترك نظره يذهب إلى غاية الجرف المظلم الهادئ في سفح (الصخرة)... {القدر نفسه أراد أن يكون خرابهما قربهما. ولكن لا يوجد في أية جهة أخرى ما يجاور هذين الحييّن الفريدين، المخرّبين، المهجورين، اللذين أعيد بناؤهما الواحد تلو الآخر، المنشطرين دون رؤية بعضهما عن قرب: فارسان خارت قواهما، يتنافسان على الضاحية حيث يعتقدان أنهما يجدّدان شبابهما نكاية في الماضي، تحت جنح الانحسار الذي يعيد إليهما، مثل أمل يعجز عنه الوصف، حلما خارج الذاكرة، نزهة زمان النوميديين التي حلّت محلّها فرق الخيالة الثقيلة للأسلاف الرومانيين الذين قدموا بغتة من عمق الليل... لأن الأحياء التي عرفت عدة مجالس لم تعد لها رغبة في النوم وهي تنتظر الهزيمة باستمرار، لا تعرف إن كانت ستفاجأ أم تُغلب”...

ولد كاتب ياسين في 6 أغسطس 1929. بعد فترة قصيرة تردد أثناءها على المدرسة القرآنية التحق بالمدرسة الفرنسية وزاول تعلمه حتى الثامن من مايو 1948. شارك في تظاهرات 8 مايو 1945 فسجن وعمره لا يتجاوز 16 سنة. بعدها بعام نشر مجموعته الشعرية الأولى «مناجاة». دخل عالم الصحافة عام 1948 فنشر في جريدة الجزائر الجمهورية Alger Republican  التي أسسها ألبير كامو.

من مؤلفاته: «مناجاة» (شعر 1946)، «أشعار الجزائر المضطهدة» (شعر 1948)، «نجمة» (رواية 1956)، «ألف عذراء» (شعر 1958)، «المضلع النجمي» (رواية 1966).