سائر أنظمة الخليج استطاعت احتواء شعوبها من خلال الإفاضة عليها معاشياً أي اقتصادياً، دون تعزيز أي ارتباط حقيقي للشعوب بالأوطان، كما عملت بكل ما أوتيت من جهد وطاقة على تعزيز فكرة أن "الحاكم" هو أساس نجاح- بل ربما قيام- سائر الدولة وتقدمها وليس الشعب ومكوناته.
من الجميل أن يتباهى الناس في الأيام الوطنية بتعليق الأعلام على بيوتهم وسياراتهم، وأن يتباروا فيمن يعلق الزينة "الوطنية" الأجمل والعلم الأكبر وهكذا... لكن السؤال هنا، هل هذه المظاهر تدل على الوطنية حقاً؟ أو لنجعل السؤال أكثر اتساعاً، ما معنى الوطنية أصلاً؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال من الضروري أن نعرف ما الوطن على وجه الدقة، ومن تعريفنا له سيتضح بعدها معنى الوطنية.الوطن كما يقولون هو المكان الذي يستوطنه الإنسان ردحاً من الزمن فيرتبط به، لكن هذا التعريف يظل قاصراً دون أن نضيف إلى معادلته مادة مهمة، وهي أن لفظة "الإنسان" هنا تعني الحالة الجماعية، أي أننا نتحدث عن الناس كجماعة، وعليه فإن الوطن لا وجود له دون وجود جماعة من الناس تقطنه. تلك المساحات الشاسعة من برارٍ ووديان وغابات وسهول بما فيها من أنهار ويحدها من بحار حول العالم لا تعتبر أوطاناً مادام أنها غير مسكونة. (لعلها أوطان للحيوانات البرية التي تقطنها).إذاً فالوطن لا قيمة له دون ناسه، بل إن الإنسان (في الحالة الجماعية) مقدم في القيمة على مكونات الوطن الأخرى، من أرض وثروات ومبان ونظام إداري وسياسي وحكومة وحاكم، وذلك لسبب بسيط هو أن الإنسان هو صانع هذا كله وموجده أو مستخرجه، ولولاه لما كان من هذا شيء أبداً. هل تتخيلون نظام حكم يقوم على قطعة من الأرض في مكان من هذا العالم دون أن يكون فيها ناس؟ لا يمكن ذلك أبداً ولا يعقل أصلاً.لهذا فإن تلك العبارة الكليشيه التي لا يزال يرددها العساكر، وكنا نرددها صغاراً في المدرسة: "الله، الوطن، الأمير"، يجب أن تفهم في هذا الإطار، وأن الوطن في حقيقة دلالته هو "الناس" أي المكون الأساسي للدولة، أي دولة كانت.سمعت من أكثر من مثقف بأن مفهوم "الوطنية" غير واضح الدلالة عند شعوب بلدان الخليج، وتفسير من يقول بذلك أن هذه الشعوب، تكونت في غالبها من البدو الرحل الذين لا يرتبطون ثقافياً بالأرض، أي أرض، بل ارتباطهم موجه لوحدتهم الاجتماعية "القبيلة" التي كانت تتحرك طوال الوقت من مكان إلى مكان بحثاً عن الماء والكلأ، وولاؤهم موجه لذلك ناحية الجهة التي توفر لهم هذا الاستقرار المعاشي (أي الاقتصادي)، سواء أكان شيخ القبيلة، أو شيخ الدولة فيما بعد ذلك، ويضيفون بأن دول الخليج تكاد تكون الدول الوحيدة في العالم التي دخلها المحتل الأجنبي وخرج منها دون مقاومة ونضال شعبي، وكأن الشعوب لم يعنها الأمر مطلقاً، ما دام "الشيخ" لم يمانع ولم تتأثر مصالحهم "المعاشية" المباشرة البسيطة أصلاً!لست واثقا من مدى دقة هذا الرأي، وهو بحاجة إلى دراسة متعمقة على كل حال، لكن ما أنا واثق منه هو أن سائر أنظمة الخليج قد استطاعت اليوم احتواء شعوبها من خلال الإفاضة عليها معاشياً أي اقتصادياً، واستمرت خلال عقود من الزمن تكون دولها الحديثة في ذلك دون تعزيز أي ارتباط حقيقي للشعوب بالأوطان على مستوى معناها الحقيقي، لا من حيث تعزيز اللحمة المجتمعية، أي ارتباط الناس بعضهم ببعض بغض النظر عن قبائلهم وطوائفهم، بل طالما عملت بعض الأنظمة على استبقاء هذه الفئويات وتعزيزها واللعب بها كورقة سياسية، ولا من حيث ارتباطهم بالأرض ومساحاتها وخيراتها باعتبارها مصدر رزقهم ومعاشهم. عملت الأنظمة في المقابل بكل ما أوتيت من جهد وطاقة على تعزيز فكرة أن "الحاكم" هو أساس نجاح- بل ربما قيام- سائر الدولة وتقدمها، وليس الشعب ومكوناته وثقافته وعطاؤه وبذله وتضحيته.هذا المسلك خطير جداً، وذلك لأن الدول قد تستمر قائمة عليه لزمن، يطول أو يقصر، ما دامت الأموال تضخ والبحبوحة الاقتصادية متوافرة، لكن عندما تنضب العين سينهار كل شيء بسرعة متناهية وسيفر أغلب الناس من التمسك بأطر دولهم الهلامية كما تفر الفئران من السفن الغارقة، وسيرتدون على أعقابهم للتمسك بوحداتهم الفطرية قبلياً وطائفياً، وهي التي لم يتم تهذيبها وإذابتها أساساً في النسيج الوطني بل زيدت تكثيفاً وتعميقاً. جميل أن تعلق علماً كبيراً على بيتك تمظهراً بالوطنية، لكن أليس الأهم أن يسبق ذلك عدم استهانتك بمتطلبات وظيفتك والتزامك بها، واحترامك لقوانين المرور في وطنك، واحترامك للنظافة وعدم إلقاء المخلفات في أنحاء وطنك، واحترامك وتقبلك لجارك من الطائفة الأخرى والقبيلة الأخرى وتقديرك لحقوقه في الوجود والعيش والتعبير في هذا الوطن، وألا تلتزم الصمت عندما يتم التعدي عليها من أي جهة كانت بما فيها النظام نفسه تحت أي ذريعة كانت؟!يا سادتي، إننا بحاجة ماسة اليوم إلى أن نفهم ما هي الوطنية، كي نعلمها من بعد ذلك لأبنائنا، إن كانت تهمنا حقاً.
مقالات
الوطن أكثر من مجرد علم!
20-02-2014