سيكون هناك يوم يصل فيه علماء وباحثون إلى مؤشر لقياس السعادة، وليس الرضا، وربما سيكون هذا المؤشر مرتبطاً بعناصر مثل: الكفاية، والصحة، والترفيه، والمنافسة، وسهولة الحياة، وجودتها.

Ad

في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ظهرت موجة من الأفلام السينمائية المصرية التي تراوح حول موضوع واحد تقريباً؛ هو موضوع علاقة الثراء بالسعادة.

لعلك تذكر أسماء الأفلام من نوع "لو كنت غني"، و"المليونير"، و"سفير جهنم"، و"الفانوس السحري"، وغيرها. هي أفلام ظريفة ومسلية حقاً؛ لكن لسنوات طويلة سابقة لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي من انتقادها ولوم القائمين على إنتاجها، بل واتهامهم بلعب "أدوار تخديرية" لجمهور هذا الزمان، الذي كان مسحوقاً بالفقر، في ظل مجتمع طبقي إقطاعي، استأثرت الطبقة الارستقراطية فيه بمجمل الثروة الوطنية، وتركت الطبقات الأدنى تعاني الجوع والعري والحفاء.

تنتهي تلك الأفلام عادة بنهاية واحدة تقريباً، يقتنع فيها الثري بأن ثراءه لم يحقق له السعادة، بل قاده وعائلته إلى التعاسة والهلاك في بعض الأحيان، ويتأكد معها الفقير بأن الفقر "مصدر للسعادة" وأن وضعه المالي جعله في مكانة أفضل من ذلك الذي ينعم بالثراء.

لقد قامت ثورة يوليو لاحقاً، وجاء الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر لينقلب على مجتمع "النصف في المئة"، الذي يمتلك الثروة والأرض الزراعية، ويحاول أن يصحح الأوضاع من وجهة نظره، فيحدد الملكية الخاصة، قبل أن يؤممها، ثم يوزع ما تمت مصادرته وتأميمه على المعدمين.

أراد عبدالناصر أن يحقق السعادة من خلال المساواة؛ لذلك فقد بنى بيوتاً مشابهة، وأقام تعليماً مجانياً متماثلاً، ومنع استيراد البضائع الاستهلاكية المتنوعة، وأنتجت المصانع التي أقامها سلعاً معمرة استأثرت بالسوق وتحكمت بعادات الشراء لعقود. وأخيراً، فقد حاول توظيف الجميع لدى الحكومة/ الدولة، برواتب متقاربة.

لم تجر استطلاعات رأي موثوقة في ذلك الزمان لتختبر مدى قدرة "سياسات تعزيز المساواة" على جلب السعادة للمواطنين، لكننا بتنا نعرف الآن، على الأقل، أن موجة من السياسات الانفتاحية، التي عززت الرغبات السريعة في الثراء والتنافس الاجتماعي والمباهاة بحجم الاستهلاك، ضربت التوجه نحو "المساواة" و"تقليل الفوارق" بعد رحيل جمال عبدالناصر بسنوات قليلة.

أطلق الرئيس الراحل السادات سياسة "الانفتاح الاقتصادي"، التي ستُعرف لاحقاً بـ"الانفتاح الاستهلاكي"، والتي ستحقق نمواً دفترياً ومظاهر تحديث زائفة، استناداً إلى فيض من المساعدات الأجنبية، وتراجع الإنفاق العسكري، وتدفق تحويلات ضخمة من العاملين بالخارج، لكنها لم تجلب الاستقرار ولا الثراء، ولا السعادة بالطبع.

ستظهر أفلام لاحقاً في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته توثق تلك المرحلة، وتصف كيف انطوى النمو والسعي إلى الثراء والنزعات الاستهلاكية على عوار وخلل قيمي واجتماعي هائل. لعلك تذكر أفلاماً مثل "انتبهوا أيها السادة"، و"أهل القمة"، وغيرها؛ وهي أفلام أرادت أن تقول إن آليات الثراء السريع أنتجت مجتمعاً مشوهاً، وقلبت الأوضاع الطبقية، وجعلت المال عنواناً للصعود الاجتماعي... وأخيراً فقد أضاعت القيم، ولم تجلب السعادة.

لقد اهتم باحثون عديدون بمفهوم السعادة، وسعى بعضهم لمحاولة قياسه مقارنة بالنمو والثراء.

والآن نحن نعرف مثلاً، كما يخبرنا، بعض الباحثين في مجال الاقتصاد وعلم الاجتماع أن السعادة غير مرتبطة بالنمو الاقتصادي، ولا بالرفاه المادي، كما أنها لا ترتبط بالضرورة بالمساواة.

يدلل هؤلاء على ما يذهبون إليه بأن نسب الانتحار تتزايد في بلدان تعرف أكثر معدلات التنمية الاقتصادية وأكبر معدلات الدخل الفردي، ويشيرون إلى شيوع أنماط الاضطراب النفسي بين الطبقات الأكثر ثراء في بعض المجتمعات.

ليست تلك عودة إلى سينما الأربعينيات المصرية بالطبع، لكنها محاولة للتذكير بأن السعادة ليست مرتبطة بمستوى اقتصادي معين، ولا معدل نمو، ولا تزدهر كذلك في مجتمع يتساوى فيه الجميع، وتنعدم المنافسة، ومعها الرغبة في التميز.

هنا أيضاً ستعود السينما العالمية لتذكيرنا بأن المجتمعات التي حكمتها النظم الشيوعية السابقة في الاتحاد السوفياتي وشرق أوروبا لم تكن تشعر بالسعادة، وبعيداً عن السينما، سيخبرنا تدفق الألمان الشرقيين عبر سور برلين عقب انهياره بذلك أيضاً.

سيكون هناك يوم يصل فيه علماء وباحثون إلى مؤشر لقياس السعادة، وليس الرضا، وربما سيكون هذا المؤشر مرتبطاً بعناصر مثل: الكفاية، والصحة، والترفيه، والمنافسة، وسهولة الحياة، وجودتها.

في الأسبوع الماضي، كانت دبي تشهد الدورة الثانية لـ"القمة الحكومية"، وهي القمة التي كانت تناقش موضوعات عديدة خاصة بالسياسات العامة وأداء الحكومات، فما علاقة تلك القمة بمسألة تحقيق السعادة؟

يبدو أن "السعادة" كانت كلمة السر وراء تلك القمة المرموقة؛ إذ تمحورت عناوين الجلسات حول الإبداع والابتكار والقيادة في مجالات الصحة والتعليم والخدمات الحكومية وتنظيم المدن.

سأل صحافي كويتي شاب الشيخ محمد بن راشد، خلال لقائه بعدد من الكتاب والصحافيين على هامش القمة: "ما الذي تنصح به حكام دول الخليج ليستطيعوا أن يحققوا إنجازات مثل التي تحققت في دبي؟".

أجاب الشيخ محمد بقوله: "حكام الخليج إخوة أعزاء. ولسنا في موضع تقديم النصح لهم. ربما أنا من يحتاج إلى نصائحهم". فعاد السائل ملحاً بسؤال جديد: "وماذا عن الشباب... الجيل الجديد من القادة الخليجيين... بماذا تنصحهم؟". أجاب الشيخ: "نحن نفعل ما نفعل فقط لإسعاد الناس. عليكم بالعمل لإسعاد الناس".

لم يكن مستغرباً إذن أن تتمحور تلك القمة حول مفهوم السعادة، وكيف يمكن أن تجلب الإدارة الرشيدة السعادة لسكان المدن والمتعاملين مع الخدمات الحكومية، وفق ما أشار إليه عنوان إحدى الجلسات.

ولم يكن مستغرباً أيضاً أن تكون المدينة التي تنظم تلك القمة هي دبي، التي باتت بحق مدينة للسعادة.

تحقق دبي النمو الاقتصادي المعقول والمطرد، لكنها ليست أكثر من يحقق النمو في العالم، وليست بعيدة عن الأزمات الخانقة أحياناً.

وتعرف دبي مستويات الدخول المتفاوتة والقياسية، لكنها لا تعرف الفقر، وتحرص على إبقاء سكانها جميعا فوق حد الكفاية.

تقيم دبي الخدمات، وتتوخى النظام، وتحرس السلام، وتنزع إلى العدل، وتتفادى الصراعات، وتجعل الترفيه جزءاً أساسياً من الحياة، ولا تنتهك البيئة أو تخاصمها، وتحاول دائماً أن تضفي لمسات المرح على كل بقعة وأي نشاط.

سيكون الناس في دبي سعداء، لأن القائمين على الأمر قرروا أن يكون إسعاد الناس هدفهم، ولأنهم يملكون القدرة لتحقيق ذلك.

مدن الفوضى والاستبداد والظلم لن تجلب السعادة بالطبع، ولا مدن الخمول والظلام والتنافس الآلي قادرة على إدراكها.

ستكون دبي قادرة على إلهام الآخرين، بمعادلة بسيطة؛ ليس فيها نفط وغاز، ولا سماء متشحة بسواد دخان المصانع، ولا شوارع مكتظة ببشر واجمين يعانون الفقر أو يخافونه، أو ببشر منهكين يخافون احتلال المراكز المتأخرة في السباق الذي لا ينتهي أبداً.

ستكون دبي قادرة على إلهام الآخرين، بمعادلة تقول إن الثراء ليس عنوان السعادة، لكنها لا تأتي مع العوز والحاجة، وأن الترفيه أهم من الرفاه، وأن الإبداع لا يتعلق بالقدرة على تحقيق النمو واكتناز المال، لكنه يتعلق بكيفية استثمار المال لإسعاد الناس وخدمتهم.

ستحتاج دبي إلى أن تحافظ على طموحها لتحقيق السعادة، وليس لتحقيق النمو ومراكمة الثروة، وستحتاج أيضاً إلى أن تعزز مشاركة أبنائها في صناعة السياسات واتخاذ القرارات، كما أشركتهم في ورشة الإنجاز وتحقيق النجاحات.

* كاتب مصري