"فتاة المصنع} عنوان الفيلم الذي أعاد المخرج المخضرم محمد خان إلى جمهوره، وإلى نفسه؛ فالمخرج الذي قدم إلى السينما المصرية والعربية باقة من الأفلام الرائعة مثل: {موعد على العشاء}، {طائر على الطريق}، {الحريف}، {عودة مواطن} و{زوجة رجل مهم}، بدا في غير حالته، وهو يُنجز فيلمي: {بنات وسط البلد} (2005) و{في شقة مصر الجديدة} (2007)، كأنه يسعى ليحقق حضوراً على الساحة فحسب، إلى أن فاجأ الجميع بفيلم {فتاة المصنع}، الذي أهداه إلى روح سعاد حسني، ولم يكتف بذلك، بل وظف مقاطع من أغانيها التي راحت تدندن بها من دون موسيقى في حوارات إذاعية سابقة، في التعليق على مشاهد فيلم {فتاة المصنع}، الذي شهد، أيضاً، عودة الموسيقار جورج كازازيان الغائب عن السينما، مذ وضع الموسيقى التصويرية لفيلم «زوجة رجل مهم» .
عاد «خان» إلى عالمه الأثير؛ حيث المكان (حي الأباجية بشرق القاهرة) والبشر (هيام التي تخيط الملابس في المصنع)، وتابع انحيازه للمرأة ضد المجتمع الذكوري، وانتصر لها في معركتها مع المفاهيم الرجعية، من خلال الفتاة العشرينية «هيام» (ياسمين رئيس) التي يأخذها الشوق، ورفيقاتها في المصنع، إلى رجل يُغدق عليها حبه، وتتصور أنها وجدته في المهندس «صلاح» (المطرب هاني عادل)، فتتقرب إليه، وتزوره في منزله لتتعرف إلى عائلته، وتتحمل الطعن في سمعتها، وتصمت، بشكل مريب، على الإشاعة التي اتهمتها بالدخول في علاقة غير شرعية مع المهندس، انتهت بحملها سفاحاً. هنا تبدو المبالغة كبيرة، خصوصاً أن قضية الكشف عن العذرية لم تعد تحتل أهمية مجتمعية بهذه الدرجة التي شغلت خان وكاتبة السيناريو وسام سليمان، وكانت سبباً في العذاب الذي تعرضت له «فتاة المصنع» في محيط العمل والعائلة؛ فالثقافة تغيرت، والمفاهيم انقلبت، وصورة الجدة التي تطأ بقدمها رقبة الفتاة لتتمكن من قص شعرها، كنوع من العقاب، صارت «فولكلورية»، على غرار عشرات الصور التي تخللت أحداث الفيلم، كإلقاء شعر الفتاة في النيل، وطقوس الولادة؛ وفي أكثر من مشهد يشعر المتابع لأحداث فيلم «فتاة المصنع» بأن المخرج مأخوذ بصور جمالية لا وجود لها على أرض الواقع، مثل نوم البطلة مع أختها وخالتها الليل بأكمله في الصندوق المكشوف لعربة نصف نقل؛ فأهل الحارة الشعبية المعروف عنهم «النخوة» و{الشهامة» لا يمكن أن يرضوا بوضع مخجل كهذا، بينما يبدو الربط ذكياً، في المقابل، بين لقاء البطلة والمهندس، ومرور تظاهرة على مقربة منهما، في إشارة إلى قيام الثورة؛ خصوصاً أن التنوير الدرامي حاضر طوال الأحداث. كعادة أفلام محمد خان تكاد تشم في «فتاة المصنع» رائحة الحارة الشعبية، والشوارع، وتُشفق على الفتيات اللواتي أرهقتهن الحياة اليومية، ويتحايلن للحصول على لقمة العيش؛ فالكل ضحايا واقع بائس، على الصعيدين الاقتصادي والعاطفي، لكن «خان» و{وسام» نجحا في إنقاذ الفيلم، رغم الصدمة، من الحزن والقتامة؛ إذ لم تغب البهجة، ولم تختف جرعة التفاؤل، وبدت التجربة أقرب إلى «الشجن النبيل»، باستثناء النهاية التي ظهرت فيها البطلة، وهي ترقص في حفل زفاف المهندس، كنوع من الوفاء بالنذر، حسبما زعمت، أو انتصارها في معركتها، كما ادعى المخرج؛ فالادعاء واضح، والحجة غير مقنعة، والمعنى الأكثر استقامة مع العقل أن «الطير يرقص مذبوحاً من الألم». مع التميز الذي وصلت إليه وسام سليمان في ما يتعلق بكتابة السيناريو، والحوار الذي صيغ بسلاسة، وحرفية، ورهافة، وواقعية، يسيطر المخرج محمد خان، كعادته، على طاقم التمثيل، ويفاجئ الجميع بإعادة اكتشاف «ياسمين رئيس»، التي شاركت من قبل في أفلام: «المصلحة»، «واحد صحيح» و{إكس لارج» ومسلسلات: «بدون ذكر أسماء»، «موجة حارة» و{طرف ثالث»، لكنها لم تصل إلى هذه الدرجة من التلقائية والبساطة، والقدرة على المزج بين البراءة والرومنسية، وأيضاً القوة والجبروت، وهو الأداء العبقري، الذي وصلت إليه سلوى خطاب ومعها سلوى محمد علي؛ الأولى جسدت، ببراعة، شخصية الأم الخائفة على ابنتها، والثانية تعيش مأساة قوامها الحرمان العاطفي، بعد طلاقها من زوجها، وقسوة ابنتها. لكن المرأة في سينما محمد خان لا تبدو مهيضة الجناح أو مغلوبة على أمرها بل قوية تتعالى فوق آلامها وجراحها، وهي السمة التي تجلت بوضوح في فيلم «فتاة المصنع»، الذي ينبض بحب الحياة، والتعلق بالأمل في واقع جديد تتحقق فيه الآمال، وأظنها رسالة مفعمة بروح التفاؤل لم تغب، يوماً، عن أفلام محمد خان. يخطئ من يظن أن «فتاة المصنع» فيلم عن هموم فتيات العشوائيات، لكنه فيلم عن الأحلام المجهضة التي تعصف بالفقراء، والأمل الذي يقوي رغبتهم في الحياة، ويجعل من حواريهم الضيقة، وبيوتهم الخانقة، دنيا رحبة يتجدد فيها الحلم... وتستيقظ فيها رغبة البقاء على قيد الحياة، حتى لو تحايلوا واتخذوا من الوهم سبيلاً للبقاء!
توابل
فجر يوم جديد: {فتاة المصنع} !
17-03-2014