راحوا الطيبين!
ثمة عبارات تتداول في شتى المجالس والوسائل الإعلامية تأسياً على رحيل "الزمن الجميل"، أو تجد منضجعاً يحتسي قدح شايه، ويندب العصر والزمان، بقوله: "راحوا الطيبين"!هذه عبارات (نستالوجية)، تعبّر عن الحنين العميق للزمن الماضي. في التلفزيون الكويتي كما السعودي ساعات لاستذكار المباريات القديمة والمسلسلات الغابرة، وعلى "اليوتيوب" قنوات شغلها الشاغل توثيق الإعلانات القديمة التي تعرض على التلفزيونات الخليجية آنذاك. حين نشاهدها تأتي حالة الحنين تشغف قلوبنا، وكأن زمننا الجميل خلفنا لا أمامنا، وهذه معضلة كبرى أن يكون ما مضى بالنسبة لنا خيراً مما نعيشه أو ننعم به الآن، أو ننتظره في المستقبل.
والقصة في تقديري أن الإنسان يتذكر اللحظات الجميلة من الماضي، فيحن إليه، لكنه واقع في أسر ذاكرته الانتقائية، التي تذكر الماضي الجميل، وتتغافل عن الماضي القبيح. كذلك الأمر بالعصر الذهبي للإسلام، الذي يمتد حتى القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلادي. خلال هذه الفترة، قام مهندسو وعلماء وتجار العالم الإسلامي بالمساهمة بشكل كبير في الحقول التالية: الفن والزراعة والاقتصاد والصناعة والأدب والملاحة والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا، من خلال المحافظة والبناء على المساهمات السابقة، وبإضافة العديد من اختراعاتهم وابتكاراتهم. العصر الذهبي خلفنا وليس أمامنا، كما هو حال الزمن الجميل والعصر الجميل والرجال الأطهار الذين ذهبوا مع زمنهم.مع المرارة التي عاشها الآباء والأجداد قبل النفط، والفقر الذي عانوا منه، إلا أن أحدهم يروي عن أمه عشقها للصور القديمة، بيوت الطين، قرب الماء، صور الآبار والعيون، الصحون القديمة وأشكالها، كل تلك الصور تذهب بها إلى غياهب بعيدة من عمق التاريخ الذي مضى وانتهى!بالتأكيد أن للذكريات بريقها، وللماضي لحظاته الحلوة، غير أن هذا يجب ألا يحولنا إلى كائنات لا تؤمن بالحاضر أو بالمستقبل ولا تخطط له. إذا كان الذي مضى جميلاً فيجب أن نخطط لمستقبل جميل، وأن نعيش حاضراً أكثر اكتمالاً وحباً. ألاحظ الحرص الدائم على تحولات الأخلاق وقصص العفاف التي يرويها الآباء، مقابل هذا السخف الأخلاقي المَعيش، من زواج الصغيرات إلى التحرش بالأطفال، وسواهما من تحولات كبرى لم يستطع من عاش في براءة الماضي أن يستوعب هذا الخلل المرير.إنها أزمان جميلة مضت، لكن ما الذي يمنع أن نفتتح مستقبلاً أكثر إشراقاً وجمالاً، فالحنين بعضه مبهج، وكثير منه يزرع المرض والألم على جسد المجتمع.