في ساعة الشبح

نشر في 20-03-2014
آخر تحديث 20-03-2014 | 00:01
 فوزي كريم الشاعر تشارلس سيميك صربي الولادة. قطعَ سنواتِ الطفولة تحت ظل الاحتلال النازي، وفي صباه انتقل الى الولايات المتحدة، وشرَعَ في بناء سمعته كشاعر أميركي ناشط، وواسع الشهرة. رؤيته الشعرية حصيلة مُصفاة من عالم خبره منذ طفولته. تتداخل فيها زاويتا نظر الكوميدية الضاحكة، والتراجيدية التي تعرف عن وعي مدى عتمة إشكالاتنا الفلسفية والروحية.

الرائع في شعره أنه وليد وحدة بين عناصر تبدو في الظاهر متعارضة، ولكنها في حقيقتها عناصرُ الشعر والإبداع المتخيل حيث يكون: الواقعي صنو السوريالي. المهذب صنو الغريب الناشز. الشيءُ العيني صنو انطباع الوعي الداخلي عنه. كل هذا يتم بلغة شعرية غاية في الوضوح والبساطة. طيّعٌ في التعامل مع الأوزان ومع التقفية. وحين يشاء يبدو يسيراً في التخلي عنهما معا في قصيدة نثر لا تقل شأناً.

  سورياليته بارزة، ولكنه من بين قلة من الشعراء الذين تبدو سورياليتهم نسخةً أكثرَ أصالة، ووسيلةً للاكتشاف، لا مطية لاعتباط يهدف الى الصدمة الخالصة، كما هو لدى كثيرين.

 في إحدى القصائد المبكرة، تبدو لنا «الملعقة القديمة» المألوفة «جاهزة لأن تحك تاريخ اليوم، وحروفَ اسمك، على الحائط الأجرد». والشوكة «تشبه قدم طائرٍ مهترئة على رقبة الكانيبال». أحيانا تتحول هذه الرؤى الى كوميديا سوداء، كما في قصيدة «قصة قبل النوم». «حين تتهاوى شجرة في غابة/ وما من أحد في الجوار/ يسمع الصوت، يُلقى على طيور البوم وحدها عبء التفكير/ ومن فرط التفكير تُسقط فراخها فتأكلها النمال، التي تشبه قلنسوات سوداء صغيرة». وحين يسترجع سيميك، الذي كان طفلا في يوغوسلافيا ابان الحرب العالمية الثانية، الرعبَ الذي عاشه هناك، يمنح ذلك أكثر من تفسير لطبيعة أسلوبه الحاد، الواضح، ورؤياه المظلمة: «لقد أُخبرتُ ولم أصدق/ أنني في ذلك الصيف كنت شاهداً على رجال يُعدمون شنقاً على أعمدة التلغراف».

حين أصدرت دار Faber and Faber مختارات جديدة، من عام 1963-2003، كان سيميك قد أصدر حوالي خمس عشرة مجموعة شعرية، ومجموعتيْ قصائد مختارة، وأحدَ عشر كتاباً شعرياً مترجماً. وهو دائم الكتابة للمقالة النقدية في عدد من المجلات المعروفة.

قراءة قصيدته تُشعرك بمقدار طواعية الكلمات في اختيار مكانها دون عنت، وطردِ ما لا مكان له أو ضرورة. إنه، بقدرته على تنحية ما هو فائض في قصيدته، «استطاع أن يصل الى جوهر اللغة الانكليزية»، بتعبير أحد النقاد. أو كما عبر هو: «بضعةُ كلمات محاطةٍ بفيض من الصمت». قصيدته، حيث لا زخرف في لغتها، تعتمد بشكل أساس على المحتوى وزاوية النظر، لا على الموسيقى والايقاع.

سورياليته لا تتطابق مع أي سوريالية عرفناها، وخاصة في الشعر الفرنسي. عوالمه قد لا تتماثل مع عوالمنا الأرضية، ولكنها بالتأكيد لا تفتقد الى الواقعية. لأنه ببساطة ينظر الى هذه العوالم الواقعية الملموسة عبر منظار إدراكه ومخيلته هو. شاعر رومانتيكي، ينتفع من تقنيات السوريالية في الجمع المثير بين ما لا يُجمع، وفي الصور الحلمية، واللامعقولة.

 «محل قصاب»

في تجوالي الليلي المتأخر أحياناً أتوقف عند محل قصاب مغلق.

هناك ضوء وحيدٌ فيه/ يشبه ضوء السجين الذي يحفر نفقَ هربه.

مئزر معلق في خطّاف:/ الدم يزوّدُ خارطةَ قارات الدم عليه

بأنهار الدمِ ومحيطاته. ثمة سكاكين تلتمعُ مثل مذابح

في بهو كنيسة غير مُضاء/ حيث يأتون بالكُسّحِ والمعتوهين

رجاءَ شفائهم. ثمة لوح خشب لقطع العظم واللحم/ مكشوطٌ بعناية ـ

نهرٌ جفّ حتى القاع/ حيث أسمع صوتاً في عمق الليل./ إبرة.

في ساعة الشبح/ دعْ إحدى أصابعك

تذرعُ أرضيةَ/ هذا البيت العتيق

كما لو أنها غابة معتمة،/ مع إبرة فضية/ تعود لوالدتك الميتة

في عش طائرٍ/ ثمة قطرة دم وحيدة/ تنحدر/الى عينها التي لا تنام.

back to top