عقل العويط في «سكايبينغ» حوار يليق بأن يكون سجناً لامرأة حرّة

نشر في 28-04-2014 | 00:01
آخر تحديث 28-04-2014 | 00:01
No Image Caption
قد يكون الحوار تورّطاً لغويّاً لا بدّ منه. وقد تكون صعوبة الكلمة الحواريّة في أنّ المطلوب منها أن تكون بكامل لياقتها وحيويّتها شاهرة كلّ ذاتها، بينما الكلمة في نصّ يقول صاحبه وحيداً هي مرتاحة وشبيهة حسناء في سرير يتولّى الراغب إليها إيقاظ سريرها وجسدها وديك صباحها...
في جديده {سكايبينغ} يرتدي الشاعر عقل العويط فضّة مرآته، ويرسل الكلام منه إليه في ضرب من تبادل الذات مع الذات، إذ كثيراً ما ترقى ذات الشاعر إلى أن تصير كلاماً، مجرّد كلام يمحو بظلاله اللحم والدم والمكان والزمان ويذهب بمملكة الحواس عن بكرة أبيها. وقد قدّم العويط لقارئه من بداية البوح مفتاحاً ذهبيّاً يساعده على تصوّر الأبواب التي تلوذ بظلالها المعاني: {إلى عقل العويط، زاعماً أنّه الشخص الثاني في هذا الحوار}. وممّا لا شكّ فيه أن {سكايبينغ} أكثر من حوار، إنّه سيرة ذاتيّة مكتملة بالحبّ، فكأنّ صاحبها لا يرى الوجود سوى قمقم وليس مارده غير امرأة قد تأتي وقد لا تأتي، وقد تزور وهي على غياب، وقد تغيب وهي على حضور.

    لغة عقل العويط راقية، وتفهمه جيّداً، فهي تتّسع لصدق مشاعره، وتلبّي نداء فكرته على أكمل وجه، وتعرف أن تحضر في حواره مع ذاته بكلّ أناقتها وحرّيّتها، خالية من غبار القاموس، طاعنة في الانتساب إلى الحياة. وتعرف أيضاً أن تبدّل فساتينها برشاقة وتنتقل من فصحويّتها إلى المحكيّة، دون أن تخسر شيئاً من ماء وجهها أو من بريق عينيها المخادع: {... ما بينفع النّدم، لأنّو مش رح نقدر نكسر الحيط}.

    يفترض العويط الزّمان: {سأفترض أنّه الفجر...}، ويفترض الشخصيّة – البطل: {أوهميني فقط أنّكِ هنا}... إنّه الافتراض الممكن والمستحيل في آن، فكيف نفترض زمناً ونحن فيه؟ وكيف نفترض امرأة ونحن نعانقها؟ وفي الوقت نفسه كيف نتبنّى زمناً غريباً عن خفقان قلوبنا؟ وكيف يعترف رجل بامرأة رشيقة الانتقال من ضفّة الحقيقة إلى ضفّة الوهم وخبيرة في التواري خلف أسوار جسدها؟

شراع الجسد

كتب العويط حواره: {في مكان مغلق. وحيداً ومليئاً بالجسد المعطوب}، ونقله قلمه إلى جزيرة قصيّة من جزر العدم، حيث الآخر يختفي في اللاوجود: {عندما أكتب ينحلّ كلّ شيء خارجيّ إلى عدم. وأنحلّ أنا في هذا العدم}. ولعلّه نجا بذلك من أن يكون أسير معرفة الآخر به: {هذا يعزّيني لأنّه يجعلني حرّاً من معرفة الآخر بي}. غير أنّ الشاعر يمضي إلى عدمه ووحدته مسكوناً بالمرأة، فاتحاً شراع الجسد فتحة كاملة، مبحراً في مركب من مراكب اللذّة البدائيّة: {رحمُكِ تفجِّم دماغي...}، وهو يترك أنثاه كمن يغادر مدينته الفاضلة من باب ليعود ويدخل إليها من باب ثانٍ: {... وطردتِني من البيت. لقد نمت مثلما كنت أنام قبلك. كهرٍّ شريد. على كنبة. مطلوب منكِ على الفور أن تخترعي الصحون. وأن تعيدي الصحون إلى مكانها. وأن أعود إلى البيت...} ويراهن العويط على أنّ المرأة التي تتّهمه بالمازوشيّة لن تستطيع أن تجد ما يكفيها من الماء والهواء خارج صدره وليست: {قادرة على إدارة هذه الفجيعة الوجوديّة}... وعليه، فقد تعود إلى المرأة التي فيها وقد تغادر إلى امرأة أخرى.

توازن عاطفي

    ولأنّ أنثى الشاعر تزور بين سفر وسفر وصل إلى حلّ يجعلها دائمة الإقامة فيه: {أقول لا مسافات، تستطيع أن تحول دونكِ. أفسّرُكِ في رأسي خارج المسافات}. وأصبح ذا قدرة على إيجاد توازنه العاطفي، رغم البعد الذي تجترحه الجغرافيا، من خلال قراءة جديدة للوجود ترى أنّ العاطفة ليست بريئة من صناعة هذا الكون: {تصلني آهاتك. يصلني كلّ ما تعتقدين أنّه لا يصل. نظام الكون هذا، لا تهندسه الجاذبيّة فحسب، بل أيضاً هذه الآهات والأشواق والرغبات والشهوات...} وإذا كان الجسد محرِّض العويط على كثير من الحبّ، أو العكس، فإنّه يتلاشى في امرأة يتسابق عقلها وجسدها إليها: {أنتِ كيميائيّة. روائيّة. ناقدة. قارئة... كوني واقعيّة. الأنثى لا الكاتبة.} فهل للكاتبة أن تكون الأنثى أو هل لها أن تعيش جسدها خارج المحبرة وبعيداً من رائحة الورق؟!

    ويبدو العويط بشهادة أنثاه رجلاً مختلفاً، فهو يرتدي المدينة وترتديه دون أن يخسر الفلاّح الذي فيه، ذلك الفلاّح الصّلب المختزن في جسده ريحاً: {أحبّ اختلافك الأهوج... أرغب كونك تجيء من مكان آخر...} أمّا على مستوى آخر، فهو – وبشهادة أنثاه أيضاً – شظايا رجل في رجل، أو رجل يصنع انسجامه من تعدّده، ويبني لماضيه مكاناً في يومه، وليومه مكاناً في ماضيه: {يعجبني أنّك مفكّك، من كلّ وادٍ عصا. تخلط الأزمنة، كأنّ الماضي هو اليوم، واليوم هو الماضي}.

    وإذا كان للجسد حضور لا ينافس في {سكايبينغ} إلاّ أنّ هذا الجسد يظهر، بشكل أو بآخر، صانع الحب وقاتله في آنٍ: {كنتِ تقولين إنّ الحبّ لحظة بيولوجيّة، أو مزاح. خبرّيني كيف تعيشين بيولوجيّتكِ؟} وهذا الجسد المحيي المميت يبدو أنّه يتعب من صناعة الفردوس والجحيم: {خذ جسدَكَ لأنّه يستنفر ما فاتني من جسدي}... وقد تكون أنثى العويط مزاجيّة الجسد وتعرف أنّها لا تستطيع البقاء طويلاً في فيء سحابة عاشقة ولذلك قالت له: {قلتُ لك من البداية فلتكن علاقتنا شبيهة بقيلولة. بغيمة جموح خفيفة وعابرة}...

    وإلى الموت يمضي العويط لينجّي عينيه من لوحات الفجيعة المرسومة بالأسود والأسود، وليخلّص سمعه من كلمات لا تأتي بالماء إلى طاحونة فرحه... الموت حارس أمين للحبّ، والميت يفوز بموته حين يكون العاشق: {ولئلاّ يهرب الحبّ رأيت من شروط اللعبة أن أكون أنا الميت}.

    وأمام جدليّة الموت والحياة، يلوذ العويط بالمعنى غير الموشوم بالمجاز، لأنّ التشبيه لا يستطيع أن يكون وفيّاً للأصل بما فيه الكفاية، ربّما لأنّ المجاز يريد شيئاً لنفسه أيضاً على حساب المعنى: {ليس من تشابيه تعطي الأصل حقّه. المعنى الماحق يقيم خارج التشبيه، لأنّه ماحق ولا ينتظر ما يعيه لكي يشبّهه به}.

    في {سكايبينغ} كتب عقل العويط للحبّ. كتب بخيال يغتسل بماء العاطفة المبارك. قال كلّ ما فيه من رجل يحبّ إلى امرأة تظهر في كلّ ما فيها من امرأة وتتوارى في كلّ ما فيها من امرأة. وقد افترض أنثى وحبّاً قد يكونان تحت قنطرة الوجود وقد لا يكونان، وهل الحقيقة، بالرغم من أنّها حقيقة، هي أكثر من افتراض؟!

back to top