سيكون قطاع كبير من الثوريين المصريين مهتماً بدعم خيار السيسي، ومراقبة أدائه، وتقويمه إن خرج عن المسار، لكن هؤلاء لن يعودوا، على الأرجح، إلى التكنيكات الثورية تحت عنوان «ثورة دائمة مستمرة»، أو «هدم مؤسسات الدولة بالكامل لإعادة بنائها على أسس ثورية».

Ad

 في مطلع شهر أبريل الجاري، اجتمع نحو مئة مثقف عربي في مكتبة الإسكندرية، للمشاركة في مؤتمر تحت عنوان: "العالم العربي: نداء الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية"؛ ليناقشوا التطورات الراهنة في بلدان التغيير العربي، وليبلوروا موقفاً واضحاً من التحديات الملحة التي باتت تواجه كل الأقطار العربية، سواء تلك التي انخرطت في التغيير أم تلك التي لم تصلها رياحه بعد.

ورغم توضيح مسار النقاش، وصرامة عناوين الجلسات؛ فإن جزءاً كبيراً من الجدل الذي صاحب أعمال الندوة، التي استمرت ليومين كاملين، انصب على محاولة توصيف ما جرى، اعتباراً من مطلع عام 2011، في كل من تونس، ومصر، وليبيا، وسورية، واليمن، والبحرين، وبعض الدول العربية الأخرى.

وقد تبلورت خلاصة النقاشات، بعد أخذ ورد، في أن "نداء الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية ما زال الأعلى صوتاً، والأكثر إلحاحاً، والأجدر بأن نعمل من أجله، رغم أننا لم نعرف بالضبط طبيعة ما جرى في بلدان التغيير العربية، وما إذا كان قد أخذنا فعلاً في طريق تلك الاستحقاقات، أم حرفنا بعيداً عنها".

وعلى هامش تلك المناقشات الساخنة، برزت على السطح مجدداً قضية "الثورة والإصلاح"، وقد كانت الفرصة سانحة تلك المرة لأنصار الإصلاح التدريجي من داخل مؤسسات الدولة، للتأكيد على فكرتهم، خصوصاً أن الأخبار المفزعة القادمة من ليبيا وسورية وغيرهما من بلدان التغيير كانت تهيمن على المزاج العام.

تبقى قضية الثورة والإصلاح صالحة للطرح في هذا التوقيت بالذات، خصوصاً أن ثمة "مراجعات ثورية" يبدو أنها تجري باطراد على أكثر من صعيد.

عندما أوشك المتظاهرون المصريون على تحقيق هدفهم في إطاحة حسني مبارك في نهاية شهر يناير 2011، كان أحد الإعلاميين البارزين من أنصاره يتنقل بين القنوات الفضائية كل ليلة ليؤكد طرحا محددا؛ مفاده أن "الشعب يريد إصلاح النظام"، وليس "إسقاط النظام"، كما تهتف الجماهير.

الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات، تبدو تلك المقولة أقرب إلى التحقق، رغم أنها لاقت الكثير من الانتقاد والهجوم حين قيلت لأول مرة.

تعد الناشطة الثورية إسراء عبدالفتاح أحد أبرز رموز ثورة يناير؛ إذ كانت قد بدأت نشاطها الثوري مبكراً في عام 2004 من خلال حركة "كفاية"، قبل أن تشارك بقوة في الدعوة إلى إضراب 6 أبريل، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الإضراب الذي مثل الهزة الرئيسة الأولى لنظام مبارك.

ظلت إسراء على وفائها للعمل الثوري حتى اندلاع ثورة يناير، وصولاً إلى 30 يونيو 2013، حيث شاركت مع زملائها بقوة في الانتفاضة التي أطاحت حكم تنظيم "الإخوان".

لكن إسراء نشرت مقالاً في الصحف المصرية نهاية الأسبوع الماضي، تحت عنوان "آليات التغيير"، كتبت فيه: "في اعتقادي الشخصي أن التطور الطبيعي للثورات والثوار أن يتحولوا من ثائرين إلى إصلاحيين داخل مؤسسات الدولة، حتى ينفذوا ما يؤمنون به. فالتغيير بآليات الشارع له وقته، وهو مطلوب دوماً كوسيلة ضغط على أشخاص معينين ليستجيبوا له، وليشرعوا فوراً في البناء. وتنفيذ مطالب التغيير لن يأتي إلا بتطبيق مبادئ الثورة وأفكارها من داخل المؤسسات، مهما كان حجم الفساد المتراكم فيها؛ إذ لا بد أن يتم تطهيرها داخلياً وتدريجياً".

يمثل ذلك المقال إعلاناً واضحاً عن تحول الثوري إلى الإصلاحي، أو عن إيمانه بأن "الثورة الدائمة" لن تؤدي إلى الإصلاح المنشود، ولكن العمل الثوري الذي يتحول إلى جهد إصلاحي يستهدف مؤسسات الدولة هو الأكثر نجاعة وصواباً... تعطينا حركة "تمرد" مثالاً واضحاً على هذا التحول.

لقد نشأت "تمرد" كفكرة أولاً تستهدف إجبار الرئيس "الإخواني" السابق محمد مرسي على القبول بالدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة، عقب فشل حكمه المزري، ونزوعه إلى الاستبداد، وتبديد مكاسب ثورة يناير، عبر أخذها إلى فاشية دينية رجعية مقيتة.

ثم ما لبثت "تمرد"، التي اعتمدت على شباب ثوري معظمه يعكس توجهات يسارية وقومية، أن تحولت إلى عمل ثوري بامتياز، حدد هدفه في إطاحة حكم "الإخوان"، بعدما رفض مرسي التجاوب مع المطلب الديمقراطي المشروع بالدعوة إلى انتخابات مبكرة.

نجحت "تمرد" ثورياً في حشد ملايين المصريين خلف هدف محدد واضح، وكانت 30 يونيو ذروة هذا النجاح، الذي تكلل بإطاحة حكم "الإخوان"، وإعلان "خريطة الطريق" في 3 يوليو.

لكن "تمرد" انقسمت الآن إلى قسمين رئيسين؛ أحدهما يؤيد المشير السيسي والآخر يؤيد حمدين صباحي؛ والأهم من ذلك أن الناشط البارز محمود بدر، الذي أصبح لاحقاً عضواً في لجنة "الخمسين" التي صاغت دستور 2014، بات أحد العناصر المهمة في حملة ترشح المشير السيسي للرئاسة. بات القطاع الأبرز من "تمرد" إذن يدعم خيار السيسي الذي يعني الإصلاح التدريجي من داخل المؤسسات، في حين يتجه آخرون إلى دعم خيار صباحي، الذي يطرح رؤية إصلاحية أيضاً، وإن كانت تستند بوضوح إلى مطالب ثورة يناير: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية".

قطاع كبير أيضاً من الناشطين الليبراليين بات يؤيد خيار السيسي، بما يعنيه من انتهاج سبل الإصلاح، حتى الأحزاب الناصرية ذات التوجه القومي المستند إلى ميراث ثورة يوليو 1952، أصبحت تقف في الصف ذاته، مثلها مثل الكثير من الناشطين الثوريين في قوى اليسار.

تعطينا الثورتان الروسية والإيرانية، والتغيير القادم عبر الغزو الأميركي في العراق، نماذج لما يمكن أن يحدث حين يتم هدم مؤسسات الدولة هدماً كاملاً من أجل بناء غيرها على أسس جديدة.

كما تعطينا التجارب السورية واليمنية والليبية أسوأ الانطباعات عن الانهيار الحاد لمؤسسات الدولة حين يتم ضربها بعنف بداعي التغيير الثوري غير المحسوب، والذي لا يجد سنداً مؤسساتياً يدعمه بعد إطاحة الأنظمة الفاسدة والقمعية والعاجزة.

لكن يبدو أن مصر ستأخذ منحى جديداً في هذا الصدد؛ إذ سينتخب المشير السيسي على الأرجح رئيساً، وسيكون مطالباً باحترام مطالب ثورة 25 يناير، التي يبدو أنها تحظى بإجماع تقليدي بين القطاعات الحية في الأمة المصرية، وسيتم حسابه إن أخفق في الوفاء بها أو تراخى في العمل من أجل تحقيقها.

سيكون قطاع كبير من الثوريين المصريين مهتماً بدعم خيار السيسي، ومراقبة أدائه، وتقويمه إن خرج عن المسار، لكن هؤلاء لن يعودوا، على الأرجح، إلى التكنيكات الثورية تحت عنوان "ثورة دائمة مستمرة"، أو "هدم مؤسسات الدولة بالكامل لإعادة بنائها على أسس ثورية".

وستكون أنظار العالم متعلقة بمصر في السنوات الأربع المقبلة، لتتابع ما إذا كان المصريون، داخل مؤسسات الدولة أو خارجها، قادرين على الوفاء بـ"الإصلاح"، أم أنهم سيخفقون في تحقيق الهدف.

* كاتب مصري